صلح الحديبية: الانتصار الأعظم للدولة الإسلامية بدون حرب
كانت السنة السادسة للهجرة على وشك أن تنقضي حين خرج النبي ﷺ ومعه ألفٌ وأربعمئةٍ من أصحابه في رحلة لم تكن للقتال، بل للسلام — قاصدين مكة المكرمة لأداء العمرة، بعد أعوامٍ من الفراق والحنين.
خرجوا في ثياب الإحرام، بلا دروع ولا أسلحة حرب، يحملون السيوف في أغمادها، والقلوب عامرة بالإيمان.
لكن قريش، التي لم تهدأ بعد هزائمها في بدر وأحد والخندق، اعتبرت هذا الخروج تهديدًا مباشرًا لهيبتها، فجمعت جيوشها ومنعت المسلمين من دخول الحرم.
كان الموقف على شفا اشتعال معركة جديدة، لكن النبي ﷺ — بحكمته الربانية — قرر أن يكتب صفحة جديدة في التاريخ،
صفحةً ينتصر فيها الحلم على الغضب، والسياسة على الدم، والحق على السلاح.
وهكذا نزل النبي ﷺ عند مكانٍ يُقال له الحديبية، على أطراف مكة، حيث الماء القليل والرمال القاسية،
وهناك دارت أعظم مفاوضة في التاريخ بين الإيمان والكفر، بين الحلم والعناد،
لتُسفر عن صلحٍ ظاهره القيد، وباطنه الفتح —
ذلك هو صلح الحديبية، الذي قال الله عنه: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ﴾
لقد كان صلح الحديبية فتحًا قبل الفتح، وانتصارًا بالورق قبل السيوف،
لأن القائد الأعظم ﷺ علم أن النصر لا يكون دائمًا بحدّ السيف، بل بحكمة القرار.
![]() |
| مشهد فني واقعي يجسد خروج النبي ﷺ والصحابة من المدينة المنورة إلى الحديبية لأداء العمرة في السنة السادسة للهجرة، في رحلة السلام التي مهدت لفتح مكة. |
📜 خلفية صلح الحديبية: من معارك السيوف إلى طريق السلام
⚔️ من الحروب المتتابعة إلى نداء العمرة
بعد خمس سنواتٍ مليئةٍ بالدماء والتحديات — من غزوة بدر وغزوة أحد وغزوة الخندق — بدأت الدولة الإسلامية في المدينة المنوّرة تتنفس هواء الاستقرار.
قريش، التي كانت ترى في الإسلام خطرًا يهدد تجارتها وزعامتها، بدأت تشعر بأن نفوذ محمد ﷺ يزداد، وأن الدعوة التي ظنّوها ستموت في المدينة قد امتدت جذورها في كل القبائل.
وفي شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة (مارس 628م)، رأى النبي ﷺ في المنام أنه دخل المسجد الحرام هو وأصحابه محلقين رؤوسهم ومقصرين،
فأدرك أن الوقت قد حان لتحقيق الوعد الإلهي.
أعلن ﷺ أمام الصحابة أنه سيخرج إلى مكة للعمرة لا للقتال، ودعا كل من أراد أن يُعظّم البيت الحرام أن يرافقه.
خرج معه نحو 1400 من الصحابة، ليس فيهم إلا السيوف في أغمادها، وساقوا الهدي معهم علامة السلام.
كان هذا المشهد أول إعلان للعالم أن الإسلام جاء للعبادة لا للحرب، وأن القوة ليست في السلاح فقط، بل في الثقة بالله والنية الصافية.
🕊️ رحلة الإيمان إلى الحديبية
تحرك الركب النبوي من المدينة المنورة، وسار عبر طريقٍ رمليٍ قاسٍ حتى بلغ ذي الحليفة، ثم عسفان، حتى وصلوا إلى مكانٍ يُسمّى الحديبية، على مشارف مكة.
هناك توقفت القافلة بعدما بلغهم أن قريش أرسلت خالد بن الوليد على رأس كتيبةٍ مسلحة لتمنعهم من دخول الحرم.
لكن النبي ﷺ لم يأتِ للحرب، فاختار طريقًا آخر ليتجنب المواجهة، ونزل بالصحابة في أرضٍ صلبةٍ لا ماء فيها، فأرسل الله بئر الحديبية ليفجّر الماء بين أيديهم.
وفي تلك اللحظة، كتب القدر أن تتحول الرمال الجافة إلى ميدان للسلام الأعظم في التاريخ الإسلامي.
كان الهدف واضحًا: إثبات أن الإسلام دين سلامٍ عادلٍ لا يبدأ القتال، لكنه لا يخاف من المواجهة إن فُرضت عليه.
🤝 المفاوضات التاريخية بين النبي ﷺ وقريش: عندما انتصر الحلم على الغضب
🏕️ الاعتصام بالحديبية وانتظار المفاوضين
نزل النبي ﷺ وصحابته عند الحديبية على بعد نحو 22 كم من مكة المكرمة، وأقاموا خيامهم بجوار البئر التي فجرها الله ببركة دعائه.
كانت الأجواء متوترة، فـ قريش جمعت جيوشها عند مدخل مكة لمنع المسلمين من دخول الحرم، بينما أمر النبي ﷺ الصحابة بعدم استفزاز أحد، قائلًا:
“إنا لم نأتِ لقتال، وإنما جئنا معتمرين.”
أرسل ﷺ عدة مبعوثين إلى قريش لشرح موقفه السلمي، منهم خراش بن أمية الخزاعي، لكنهم آذوه وردوه، ثم أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاعتذر لأن له عشيرة بمكة،
فأرسل النبي ﷺ عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو من سادات قريش، ليفاوضهم بالحكمة والرفق.
دخل عثمان مكة يحمل رسالة السلام، وأعلن أمام زعمائها: “ما جئنا إلا زائرين للبيت الحرام، لا نريد حربًا ولا قتالًا.”
لكن قريش رفضت السماح لهم بالدخول، وأشيع في المعسكر الإسلامي أن عثمان قد قُتل،
فاهتزت القلوب، ونادى النبي ﷺ في أصحابه: “لا نبرح حتى نأخذ بالثأر!”
✋ بيعة الرضوان تحت الشجرة
اجتمع الصحابة حول النبي ﷺ في لحظة من أعظم لحظات الولاء في التاريخ،
فوضع ﷺ يده على يده وقال: “هذه يدُ عثمان.”
ثم بايعه الصحابة جميعًا على الموت إن لزم الأمر، فيما عُرف بـ بيعة الرضوان، تحت شجرةٍ في الحديبية.
نزل فيهم قول الله تعالى:
﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ﴾
كانت تلك البيعة أعظم ميثاق ولاء عرفه التاريخ الإسلامي،
فلم تكن بيعة حرب، بل بيعة صبرٍ على طريق السلام، استعدادًا للدفاع عن الكرامة دون تجاوز أو عدوان.
🕊️ عودة عثمان بن عفان وبداية التفاوض الحقيقي
لم يطل الانتظار، إذ عاد عثمان بن عفان بعد أن أكرمه قريش، وأعلنت رغبتها في إرسال سهيل بن عمرو للتفاوض.
وكان سهيل رجلًا ذكيًا قويّ الحجة، فجاء إلى النبي ﷺ وقال بحدة:
“جئنا لنضع الحرب بيننا وبينك عشر سنين.”
ابتسم النبي ﷺ وقال: “على بركة الله.”
هكذا بدأت المفاوضات التاريخية التي ستتحول إلى أعظم اتفاق في السيرة النبوية،
حيث كتب التاريخ أن محمدًا ﷺ لم ينتصر بالسيف، بل بالحلم،
ولم يكسر قريشًا، بل كسر كبرياءها بالرفق والعقل.
📜 بنود صلح الحديبية بالتفصيل: شروط ظاهرها الظلم وباطنها الفتح المبين
✍️ كتابة العهد بين النبي ﷺ وسهيل بن عمرو
جلس النبي ﷺ وسهيل بن عمرو لكتابة وثيقة السلام بين المسلمين وقريش،
وأمر النبي ﷺ علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يكتب، فقال له:
“اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم.”
فقال سهيل: “أما الرحمن فلا نعرفه، اكتب: باسمك اللهم.”
فقال النبي ﷺ لعلي: “اكتب كما يقول.”
ثم قال ﷺ:
“هذا ما صالح عليه محمد رسول الله قريشًا.”
فقال سهيل: “لو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.”
فقال النبي ﷺ:
“اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله.”
كتب علي بن أبي طالب الوثيقة بحروفٍ خُلدت في ذاكرة التاريخ كأعظم وثيقة سلامٍ بين الحق والباطل.
⚖️ بنود صلح الحديبية بالتفصيل
- وقف القتال عشر سنوات بين المسلمين وقريش، يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض.
- من أتى محمدًا من قريش مسلمًا دون إذن وليّه، رُدّ إلى قريش. ومن أتى قريشًا من المسلمين مرتدًا، لم يُردّ إليهم.
- من أحبّ أن يدخل في عهد محمد دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل فيه. فدخلت خزاعة في عهد النبي ﷺ، ودخلت بنو بكر في عهد قريش.
- رجوع النبي ﷺ وأصحابه عن العمرة هذا العام، على أن يدخلوا مكة في العام المقبل ويعتمروا ثلاثة أيام فقط دون سلاح الحرب.
- حماية طرق الجزيرة وحرية التنقل التجاري بين الطرفين.
كانت البنود صادمة للصحابة، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي ﷺ:
“يا رسول الله، ألسنا على الحق؟ فلم نعطي الدنية في ديننا؟”
فقال ﷺ بهدوءٍ عظيم:
“إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدًا.”
🌅 توقيع الصلح رغم اعتراض الصحابة
وقّع النبي ﷺ الوثيقة بيده الشريفة، رغم الألم في قلوب أصحابه،
ثم قال لهم وهو يطمئنهم: “إنه فتح.”
لم يفهم الصحابة يومها معنى هذه الكلمات، لكن الله أوحى بعدها مباشرةً: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ﴾
فكان هذا الصلح — الذي ظنّوه تراجعًا — أعظم فتحٍ استراتيجي في الإسلام،
فتح القلوب قبل فتح البلاد، ومهّد الطريق لدخول مكة بعد عامين فقط دون قتال.
![]() |
| لوحة فنية واقعية تجسد لحظة ختم النبي ﷺ وثيقة صلح الحديبية، حين انتصر الحلم على السيف والرحمة على الغضب. |


شكرًا لزيارتك مدونتي!
أحب أن أسمع أفكارك وآراءك حول ما تقرأه هنا. يرجى ترك تعليقك أدناه وإخباري برأيك في المقالة. تعليقاتك ذات قيمة بالنسبة لي وتساعد في تحسين المحتوى الذي أقدمه.
ملاحظة:
يرجى تجنب استخدام اللغة الغير اللائقة.
سيتم إزالة التعليقات التي تحتوي على روابط غير مرغوب فيها أو لغة مسيئة.
شكرًا لوقتك وأتطلع لقراءة تعليقاتك!