📁 آخر الأخبار

مراحل الدعوة في العهد المكي: من غار حراء إلى الهجرة النبوية

 🌙✨ المقدمة: بداية العهد المكي

في لحظةٍ هادئة من ليالي مكة، حيث تنام الكعبة وسط ظلامٍ عميق تتخلله أنفاس الجبال، كان الكون يستعد لولادة عهدٍ سيغيّر مجرى التاريخ كله. محمد ﷺ، الرجل الصادق الأمين، يترك صخب الجاهلية وصراعات قريش ويتوجه إلى غار حراء، باحثًا عن نورٍ يبدد ظلام الروح. هناك، فوق جبل النور، تهتز السكينة بهيبة الوحي حين ينزل جبريل عليه السلام لأول مرة، ليعلن بداية العهد المكي؛ المرحلة التي صُنعت فيها العقيدة، وتربّى فيها الصف المؤمن الأول.

لم تكن تلك الليلة مجرد بداية رسالة، بل كانت بداية أمة. من تلك اللحظة، انتقل العالم من ظلام الوثنية إلى نور التوحيد، ومن حياة بلا مقصد إلى رسالة تغيّر الواقع والقلوب. ومن غار حراء بدأت رحلة استمرت ثلاثة عشر عامًا، مليئة بالصبر، الاضطهاد، الثبات، وصناعة الرجال. العهد المكي لم يكن أحداثًا فقط، بل كان مدرسة إيمانية خرج منها الجيل الذي حمل الإسلام للعالم كله.

غار حراء في ظلام الليل مع خروج نور من داخله فوق جبال مكة في بداية العهد المكي
مشهد سينمائي يظهر غار حراء في ليلٍ دامس، بينما يخرج منه نور يرمز إلى بداية نزول الوحي وبداية العهد المكي.

📘ما هو العهد المكي؟ (تعريف دقيق وممهد لباقي المقال)

العهد المكي هو المرحلة الأولى من الدعوة الإسلامية، ويمتد ثلاثة عشر عامًا منذ نزول الوحي على النبي ﷺ في غار حراء إلى ليلة الهجرة الكبرى نحو يثرب. ويُعد العهد المكي حجر الأساس الذي بُنيت عليه العقيدة الإسلامية، لأنه ركّز على غرس الإيمان قبل الأحكام، وصناعة الرجال قبل تأسيس الدولة. في هذه الفترة واجه المسلمون الاضطهاد والعزل الاجتماعي والاقتصادي، ومرّوا بتجارب روحية عظيمة مثل الإسراء والمعراج، كما شهدت بدايات التنظيم الدعوي من خلال الدعوة السرية ثم الجهرية. ويتميز العهد المكي بأنه مرحلة تربية، وصبر، وثبات؛ وفيها تشكل جيلٌ حمل رسالة الإسلام للعالم كله.


🔒🌙مرحلة الدعوة السرية للنبي ﷺ (ثلاث سنوات من البناء الهادئ)

بعد نزول الوحي، لم يبدأ النبي ﷺ دعوته بالجهر، بل اختار السرية حرصًا على حماية من آمن معه من بطش قريش، ولتربية الصف الأول بعيدًا عن الضجيج والصدام المبكر. كانت هذه المرحلة محورية في تاريخ الدعوة، إذ ركز فيها النبي على بناء العقيدة في القلوب وتعميق معنى الإيمان بالله الواحد. كان يجتمع بالمسلمين في دار الأرقم بن أبي الأرقم على سفح الصفا، حيث تحولت تلك الدار البسيطة إلى أول مدرسة إيمانية في الإسلام.

في هذه السنوات الثلاث، برز دور أبي بكر الصديق الذي أسلم على الفور، وأصبح بابًا لإسلام نخبة من كبار الصحابة مثل عثمان بن عفان، سعد بن أبي وقاص، الزبير بن العوام، طلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف. كانت هذه المرحلة خالية من الصدام المسلح أو المواجهة، لكنها مليئة بالعمق الروحي، إذ كان المسلمون الأوائل يحفظون القرآن ويصلّون في شعاب مكة بعيدًا عن أعين الناس. وقد أسهمت الدعوة السرية في تكوين نواة صلبة من المؤمنين الذين حملوا الدعوة بثبات حين انتقلت إلى الجهر والمواجهة.


📢🔥مرحلة جهر الرسول ﷺ بالدعوة على جبل الصفا (بداية المواجهة)

بعد ثلاث سنوات من العمل الهادئ داخل جدران دار الأرقم، جاء الأمر الإلهي الحاسم: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾. عندها انتقلت الدعوة من السرية إلى الجهر، فصعد النبي ﷺ جبل الصفا ونادى بطون قريش كلها، يدعوهم إلى التوحيد ويحذرهم من عواقب الشرك. كانت تلك اللحظة فاصلة في تاريخ مكة، لأنها كشفت الصراع الحقيقي بين نور الوحي ومصالح قريش المادية والقبلية.

واجه النبي ﷺ هجومًا مباشرًا من أبو لهب الذي صاح: "تبًّا لك ألهذا جمعتنا؟" فنزلت سورة المسد ردًا عليه، معلنة بداية المواجهة العلنية. من هنا بدأت قريش تستخدم أساليب السخرية، الاتهامات، التشكيك، ومحاولة ضرب مكانة النبي الاجتماعية. ومع ذلك، استمر النبي ﷺ في الدعوة بلا تردد، يقرأ القرآن في الأسواق، ويزور القبائل، ويقف عند الكعبة يدعو قومه إلى كلمة سواء. مرحلة الجهر لم تكن مجرد إعلان للدعوة، بل كانت بداية التأسيس العلني لرسالة الإسلام التي ستغيّر وجه الجزيرة العربية بأكملها.


🗡️😔مرحلة اضطهاد وتعذيب المشركين للمسلمين (سنوات الصبر العظيمة)

بمجرد أن جهر النبي ﷺ بالدعوة، بدأت قريش في إظهار ما كانت تخفيه من عداوة للإسلام. تحولت مكة، التي كانت يومًا واحة أمن للحجاج والتجار، إلى ساحة من القسوة تجاه كل من نطق بكلمة التوحيد. فبدأت مرحلة الاضطهاد التي تُعد من أقسى وأصعب مراحل العهد المكي، حيث استهدفت قريش المستضعفين أولًا، لأنها تعلم أن ضربهم سيُضعف الدعوة ويُخيف من يفكر في الدخول إلى الإسلام.

ذاق بلال بن رباح أشد أنواع العذاب، فكان أمية بن خلف يطرحه على الرمال الملتهبة ويضع على صدره صخرة عظيمة، وهو يردد بثبات: "أحد… أحد". وتعرض آل ياسر لتعذيب وحشي انتهى باستشهاد سمية بنت خياط، أول شهيدة في الإسلام. وكان خباب بن الأرت يُكوَى بالنار حتى ظهرت آثار الحديد المحموم على ظهره. وحتى كبار الصحابة لم يسلموا؛ فتعرض أبو بكر للضرب المبرح حتى أغمي عليه، وأُوذِي النبي ﷺ نفسه بالأذى اللفظي والجسدي.

كانت هذه المرحلة اختبارًا صعبًا لثبات الصحابة، لكنها في الوقت نفسه صنعت رجالًا لا تهزمهم قوة. كانت رسالة الإسلام تتشكل وسط الألم، والصبر يرسخ جذور العقيدة في القلوب. وبرغم القسوة، لم يتراجع أحد ممن صدقوا مع الله، بل ازدادوا يقينًا وثباتًا، مما جعل الدعوة تنتقل تدريجيًا إلى مرحلة جديدة أكثر حكمة وانتشارًا.


🕊️🌍هجرة المسلمين إلى الحبشة (أول دار آمنة للإسلام)

مع اشتداد الأذى على المسلمين وازدياد قسوة قريش يومًا بعد يوم، أدرك النبي ﷺ أن الدعوة تحتاج إلى مساحة من الحرية ليتمكن أصحابه من الثبات دون خوف من التعذيب والملاحقة. عندها أشار عليهم بالهجرة إلى أرض الحبشة، حيث يحكم النجاشي، الملك العادل الذي “لا يُظلم عنده أحد”. كانت هذه الخطوة مفصلية في تاريخ الدعوة، لأنها أول انتقال للإسلام خارج حدود مكة، وأول تأسيس لوجود آمن للمسلمين في أرض جديدة.

خرجت المجموعة الأولى سرًا، تتسلل تحت جنح الليل نحو البحر الأحمر. ضمت نخبة من الصحابة، أبرزهم: عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله ﷺ، مما جعل الناس يقولون: “صحبها خير البشر”. وبعد ازدياد الاضطهاد، تبعتها مجموعة ثانية كان فيها جعفر بن أبي طالب الذي وقف أمام النجاشي بخطبته الشهيرة، يشرح فيها حال العرب قبل الإسلام وكيف أن الدعوة جاءت لتخرج الناس “من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد”.

لم تستطع قريش أن تسكت، فأرسلت عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة لاسترجاع المسلمين، لكن حكمة جعفر وعدل النجاشي أبطلا مكائدهم. فكانت الحبشة أول أرض دخلها الإسلام بسلام، وأول دولة تعترف ضمنيًا بالدعوة الجديدة. هذه الهجرة أثبتت أن الإسلام ليس مجرد دعوة محلية، بل رسالة عالمية تتحرك حيث يجد أتباعها الحرية والعدل.

مشهد فني يصور هجرة المسلمين إلى الحبشة ووقوف جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي داخل قاعة الحكم في أثيوبيا.
لوحة سينمائية تُظهر اللقاء التاريخي بين المسلمين المهاجرين والملك النجاشي، حيث وقف جعفر بن أبي طالب يخطب مدافعًا عن الإسلام أمام الملك العادل.

🕳️🥀حصار شعب أبي طالب (شعب بني هاشم – ثلاث سنوات من الجوع والصبر)

بعد أن فشلت قريش في إيقاف انتشار الإسلام عبر التعذيب والتهديد، لجأت إلى خطوة أكثر قسوة: المقاطعة الكاملة. اجتمعت بطون قريش وكتبوا وثيقة ظالمة تُعلق داخل الكعبة، تقضي بمنع التعامل مع بني هاشم وبني المطلب، فلا بيع ولا شراء، ولا زواج ولا زيارة، ولا حماية. واضطر النبي ﷺ وأهله ومن ناصره من المسلمين وغير المسلمين إلى الاحتماء داخل شعب أبي طالب عند أطراف مكة، بعيدًا عن المياه والأسواق.

استمر الحصار ثلاث سنوات قاسية، حتى إن أصوات بكاء الأطفال كانت تُسمع خارج الشعب من شدة الجوع. كان المسلمون يأكلون ورق الشجر، ويقتاتون بما يجدونه من القليل النادر. ومع ذلك، لم يتراجعوا، بل اشتدّ يقينهم، وزاد صبرهم، وأصبح الشعب مدرسة جديدة في الثبات. وقد انتهى الحصار حين شاء الله أن تُفنى الوثيقة الظالمة؛ إذ أكلت الأرضة كل ما فيها إلا اسم الله، فكانت تلك علامة سماوية على قرب الفرج. خرج المسلمون من الشعب أقوى مما دخلوا، وأكثر صلابة في مواجهة قريش.


💔🌧️عام الحزن (الضربة التي هزّت قلب النبي ﷺ)

لم يكد المسلمون يلتقطون أنفاسهم بعد الخروج من شعب أبي طالب حتى نزلت عليهم مصيبتان متتاليتان، كانتا من أقسى ما مرّ على النبي ﷺ في العهد المكي. فقد تُوفيت السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، زوجته، ووزير صدقه، وسنده العاطفي والإيماني. كانت خديجة أول من آمن به، وأول من واساه، وأقرب قلب إليه، فكانت وفاتها صدمة كسرت شيئًا من دفء الحياة في بيته الشريف.

ولم تمضِ أيام حتى توفي أبو طالب، العم الذي وقف معه في وجه قريش ثلاثين عامًا، يدافع عنه ويحميه رغم أنه لم يسلم. بموته انكسرت الحماية القبلية التي كانت تمنع قريش من الاعتداء المباشر على النبي ﷺ. فاشتد أذى المشركين، وزادت الإهانة، وازدادت محاولات الاعتداء على النبي ﷺ في الطرقات والأسواق.

لهذا سُمّي هذا العام بـ عام الحزن. ليس لأنه كان عامًا مليئًا بالمصائب فقط، بل لأنه شهد لحظات ضعف بشري صادقة، أظهرت الجانب الإنساني من حياة النبي ﷺ. ومع ذلك، لم يتوقف النبي عن الدعوة، بل حمل حزنه في قلبه وتوجه إلى مرحلة جديدة ستغيّر مسار الدعوة إلى الأبد.


🌌✨رحلة الإسراء والمعراج (تكريم سماوي بعد عام الحزن)

في خضم الألم الذي حمله النبي ﷺ بعد وفاة خديجة وأبي طالب، جاء التكريم الإلهي العظيم ليُواسي قلبه ويرفع من قدره، فكانت رحلة الإسراء والمعراج واحدة من أعظم المعجزات في تاريخ البشرية. أُسري بالنبي ﷺ ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، في انتقال خارق للعادة جمع بين قلوب الأنبياء ودعاة التوحيد عبر التاريخ، ثم عُرج به من القدس إلى السماوات العُلا، حتى بلغ سدرة المنتهى حيث لم يصل بشرٌ قط.

رأى النبي ﷺ من آيات ربه الكبرى ما لم يشاهده أحد من قبل، والتقى بالأنبياء، وشاهد الجنة والنار، وعاد من رحلته يحمل للإنسانية هدية خالدة: فريضة الصلاة، التي أصبحت عمود الدين ورابط العبد بربه خمس مرات في اليوم. هذه الرحلة لم تكن مجرد معجزة، بل كانت تحولًا روحيًا أعاد للنبي ﷺ القوة بعد الانكسار، وأكد له أن الله معه، وأن الدعوة ماضية مهما اشتد أذى قريش.

ورغم أن المشركين كذبوا الخبر، إلا أن هذا الحدث العظيم رسخ اليقين في قلوب المؤمنين، وميّز بين الصادقين والمترددين، وأسّس لمرحلة جديدة من الثبات قبل الدخول في أعظم تحولات العهد المكي: بيعة العقبة التي تمهد للمجتمع الإسلامي الأول.


🤝🌙 بيعة العقبة الأولى (بداية التحول نحو الدولة)

بعد سنوات طويلة من الصبر والمعاناة في مكة، بدأ نور الدعوة يجد طريقه إلى قلوب جديدة خارج حدود قريش. كان موسم الحج فرصة ذهبية للنبي ﷺ كي يعرض الإسلام على القبائل، وفي أحد هذه المواسم التقى ﷺ بستة رجال من الخزرج قدموا من يثرب. استمعوا إلى دعوته بقلوب مفتوحة، وعادوا إلى قومهم يحملون بشارة الدين الجديد، حتى انتشر ذكر الإسلام في يثرب بسرعة غير متوقعة.

وفي العام التالي، جاء اثنا عشر رجلًا من الأوس والخزرج ليُبايعوا النبي ﷺ عند العقبة في مكة، فيما عُرف بـ بيعة العقبة الأولى. كانت البيعة بسيطة في ظاهرها، لكنها عظيمة في أثرها، لأنها أول اتفاق منظم بين النبي ﷺ وبين جماعة خارج مكة تقبل الإسلام رسميًا. بايعوه على:

  • ألا يشركوا بالله شيئًا،
  • ولا يسرقوا،
  • ولا يزنوا،
  • ولا يقتلوا أولادهم،
  • ولا يعصوه في معروف.

ولم يكتفوا بالبيعة، بل طلبوا من النبي ﷺ أن يرسل معهم مصعب بن عمير ليعلمهم القرآن ويفقههم في الدين. وهناك، في بيوت الأنصار، بدأ الإسلام يتحول من دعوة مضطهدة في مكة إلى حركة تتوسع وتؤسس لبذور المجتمع الإسلامي الأول. كانت بيعة العقبة الأولى هي الجسر الذي سيمتد إلى أعظم بيعة في العهد المكي بعد عام واحد.


🤝🔥بيعة العقبة الثانية (اللحظة التي غيّرت مجرى الدعوة إلى الأبد)

بعد عامٍ واحد فقط من البيعة الأولى، عاد وفد الأنصار إلى مكة في موسم الحج، ولكن هذه المرة لم يأتِ اثنا عشر رجلًا فقط، بل جاء ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان من الأوس والخزرج، جميعهم يحملون في قلوبهم إيمانًا صادقًا وتصميمًا على نصرة هذا الدين. اجتمعوا ليلًا في نفس الموضع عند العقبة، بعيدًا عن أعين قريش، في واحدة من أهم الليالي في تاريخ الإسلام كله.

وقف النبي ﷺ بينهم، وقرأ عليهم القرآن، وسألهم البيعة على السمع والطاعة، وعلى حماية الرسالة كما يحمون أهلهم وأموالهم. عندها وقف الصحابي العظيم البراء بن معرور وقال كلمته الخالدة: "والذي بعثك بالحق، لنمنعنّك مما نمنع منه نساءنا وأبناءنا." وهنا أدرك النبي ﷺ أن الله فتح له بابًا جديدًا، وأن يثرب أصبحت وطنًا جاهزًا لاستقبال الإسلام.

في هذه البيعة، لم يطلب النبي ﷺ مجرد نصرة، بل وضع الأساس الكامل لبناء مجتمع ودولة. كانت البيعة تتضمن الدفاع عنه، والالتزام بطاعة القيادة، ومحاربة الشرك، والأمر بالمعروف. كما اختار الأنصار اثني عشر نقيبًا ليكونوا ممثلين عن قبائلهم، وبذلك أصبحت الدعوة منظمة لأول مرة منذ بدايتها في مكة.

بيعة العقبة الثانية كانت الشرارة التي أعلنت نهاية مرحلة الاضطهاد داخل مكة وبداية مرحلة التمكين، لأنها مهدت للحدث الأعظم في تاريخ الدعوة: الهجرة النبوية، وتأسيس أول دولة إسلامية في المدينة.


🕌🚶‍♂️تمهيد الرسول ﷺ للهجرة ونهاية العهد المكي (الانتقال من الاضطهاد إلى التمكين)

بعد بيعة العقبة الثانية أصبح الإسلام يمتلك لأول مرة قوة اجتماعية وسياسية حقيقية خارج مكة. ولم يعد الأنصار مجرد مؤمنين جدد، بل باتوا أصحاب عهدٍ وميثاق مع النبي ﷺ على الحماية والنصرة، مما جعل الهجرة إلى يثرب خيارًا استراتيجيًا لإنقاذ الدعوة من الحصار والاضطهاد. بدأت قريش تلاحظ انتشار الإسلام في يثرب، فأدركت أن الوقت يضيق وأن الدعوة لم تعد قابلة للإخماد بالتهديد والتعذيب.

هنا أمر النبي ﷺ أصحابه بالهجرة سرًا، فكانوا يخرجون جماعات متفرقة ليلًا، تاركين خلفهم أموالهم ومنازلهم وكل ما يملكون. ومن بين المهاجرين: عمر بن الخطاب الذي هاجر جهرًا متحديًا قريش، وأبو بكر الصديق الذي كان ينتظر الإذن بالسفر مع النبي ﷺ. ومع ازدياد عدد المهاجرين، تيقنت قريش أن النبي ﷺ هو الهدف الأخير المتبقي، فاجتمعوا في دار الندوة وقرروا قتله في ليلة واحدة ليتفرق دمه بين القبائل، لكن الله أحبط مكرهم.

جاء الإذن الإلهي للنبي ﷺ بالهجرة، فخرج مع أبي بكر في رحلة محفوفة بالمخاطر، واختبآ في غار ثور ثلاثة أيام بينما كانت قريش تفتش الصحراء بحثًا عنهما. ومع أن أقدام المطاردين وقفت عند باب الغار، إلا أن العناية الإلهية أحاطت بالنبي ﷺ، ليبدأ بعد ذلك رحلته المباركة نحو يثرب، حيث سيبدأ العهد المدني وبناء أول دولة إسلامية في التاريخ.

بهذا الحدث العظيم ينتهي العهد المكي؛ مرحلة الصبر والتربية والثبات، ويبدأ عهد جديد من القوة والتمكين وانتشار نور الإسلام.


❓📘الأسئلة الشائعة (FAQ) حول العهد المكي)

1) ما هو العهد المكي في السيرة النبوية؟

العهد المكي هو المرحلة الأولى من الدعوة الإسلامية، واستمرت 13 عامًا منذ نزول الوحي حتى الهجرة إلى المدينة. تميزت هذه الفترة بالتربية الإيمانية، والصبر على الاضطهاد، وتأسيس العقيدة في قلوب المسلمين.

2) ما أهم أحداث العهد المكي؟

أبرز الأحداث: نزول الوحي، الدعوة السرية، الجهر بالدعوة، الاضطهاد، الهجرة إلى الحبشة، حصار الشعب، عام الحزن، الإسراء والمعراج، بيعة العقبة الأولى والثانية، والتمهيد للهجرة.

3) لماذا كانت الدعوة سرية في بدايتها؟

لأن المجتمع المكي كان شديد العداء للتوحيد، ولحماية المسلمين الأوائل من بطش قريش، ولتكوين قاعدة قوية من المؤمنين قبل الظهور العلني.

4) لماذا هاجر المسلمون إلى الحبشة؟

هاجروا إلى الحبشة لأنها كانت تحكم بملك عادل لا يُظلم عنده أحد، وللهروب من التعذيب والاضطهاد الذي مارسته قريش ضد كل من أسلم.

5) كيف انتهى حصار شعب بني هاشم؟

انتهى الحصار بعدما أرسل الله الأرضة فأكلت الوثيقة الظالمة التي كتبتها قريش، ولم تُبقِ إلا على اسم الله، فكانت علامة على بطلان الظلم ورفع الكرب.

6) ما أثر الإسراء والمعراج في الدعوة؟

كانت الرحلة تكريمًا للنبي ﷺ بعد عام الحزن، وأثبتت للمؤمنين قوة الله وقدرته، ورسخت الإيمان، وجاءت منها أعظم فريضة وهي الصلاة.

7) لماذا كانت بيعة العقبة الثانية حدثًا مصيريًا؟

لأنها أسّست لتحالف قوي بين النبي ﷺ والأنصار، وتعهدوا فيها بحمايته ونصرة الدعوة، مما مهّد للهجرة وتأسيس دولة الإسلام في المدينة.


📝🌟خاتمة العهد المكي

بهذا تنتهي رحلة العهد المكي؛ تلك المرحلة التي وُلد فيها الإيمان، وشُيّد فيها جيلٌ لا تهزه المحن، وتحوّلت فيها الدعوة من فكرة مطاردة إلى رسالة عالمية. كان العهد المكي مدرسةً للتوحيد والصبر والثبات، وفيه تكوّن الجيل الذي حمل الإسلام على كتفيه لينطلق معه إلى العهد المدني، حيث التمكين والفتوحات وبناء الدولة. ثلاثة عشر عامًا صنعت رجالًا ونساءً بقلوب من نور، كانوا الأساس الذي قامت عليه أعظم أمة شهدها التاريخ.

إن فهم العهد المكي ليس مجرد قراءة أحداث، بل هو قراءة في كيفية صناعة الإيمان، وكيف ينتصر الحق حتى لو بدا ضعيفًا، وكيف يثبت المؤمن حين تُغلق الأبواب من حوله. إنها مرحلة تصنع القلوب قبل أن تصنع الأرض، وتربّي الإنسان قبل أن تبني الدولة.

أسئلة للقارئ :

  1. ما أكثر مرحلة في العهد المكي أثرت فيك؟ ولماذا؟
  2. هل ترى أن ثبات الصحابة في مكة كان أعظم من انتصاراتهم في المدينة؟
  3. أي حدث تعتبره نقطة التحول في مسار الدعوة: الهجرة إلى الحبشة أم بيعة العقبة الثانية؟

📢 دعوة للمشاركة:

إذا وجدت المقال مفيدًا ومؤثرًا، شاركه مع أصدقائك وقرّائك، وساهم في نشر السيرة النبوية بأسلوب جميل وموثّق. ولا تنسَ أن تتابع سلسلة المقالات القادمة عن العهد المدني والغزوات الكبرى — فكل حدث منها يحمل دروسًا عظيمة تستحق القراءة.


📚📊المصادر التاريخية عن (العهد المكي)

📌 جدول المصادر التاريخية المعتمدة

المصدر التاريخيالمؤلفنوع المصدرملاحظات
سيرة ابن هشامعبد الملك بن هشامسيرة نبويةينقل عن ابن إسحاق مع تهذيب وتنقيح
سيرة ابن إسحاقمحمد بن إسحاقأقدم كتب السيرةأصل الروايات التفصيلية للعهد المكي
الطبقات الكبرىابن سعدتراجم وسيريحتوي روايات دقيقة عن مراحل الدعوة
تاريخ الطبريمحمد بن جرير الطبريتاريخ وتحقيق رواياتمن أوسع المصادر في أحداث مكة
دلائل النبوةالبيهقيروايات معجزات السيرةمفيد في أحداث الإسراء والمعراج
البداية والنهايةابن كثيرتاريخ جامعيعرض الروايات بتمحيص وتحقيق
زاد المعادابن القيمتحليل سيرةيقدم فهمًا عميقًا لمراحل الدعوة

📝 ملاحظة تاريخية مهمة:

جميع أحداث العهد المكي المذكورة في المقال مبنية على روايات السيرة المتفق عليها بين كبار علماء السيرة، مع ترتيبها زمنيًا وفق المصادر الموثوقة. كما تم الحرص على عدم ذكر رقم صفحات حفاظًا على سياسة بلوجر، وعلى تقديم الروايات الصحيحة المشهورة فقط دون الخوض في الاختلافات الضعيفة.



عصور ذهبية
عصور ذهبية
تعليقات