📁 آخر الأخبار

عبد الله بن مسعود: صوت القرآن وفقيه الصحابة وأحد أوعية الوحي

عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رجل رفعه القرآن حتى صار أمة وحده

في تاريخ الصحابة الكرام، تبرز أسماءٌ خطّتها أنوار الوحي، ورفعتها التقوى، وكان للقرآن في حياتهم أثرٌ عظيمٌ جعله مصدر عزهم ومكانتهم. ومن بين هؤلاء الرجال الأفذاذ، يلمع نجم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، الصحابي الجليل الذي كان أول من جهر بالقرآن في مكة، وواحدًا من أعلم الناس بكتاب الله، وأحد المقرّبين من رسول الله ﷺ علمًا وخُلقًا.

قصة عبد الله بن مسعود ليست مجرد سيرة رجلٍ من الصحابة، بل حكاية صعود إنسانٍ بدأ حياته راعيًا فقيرًا لا يُؤبه له، فرفعه الإسلام وجعله من أعظم فقهاء الأمة، وأحد روّاد التفسير والحديث، بل وركنًا أساسيًا في تشكيل العقل الإسلامي الأول.

في هذا المقال الاحترافي الطويل، نغوص في حياة عبد الله بن مسعود بتفصيل، نستعرض مواقفه النادرة، وعلاقته الوثيقة بالنبي ﷺ، وكيف تعلّم القرآن على يد خير من قرأه وتلقّاه، ونبيّن أثره العظيم في التفسير والفقه والسلوك.

عبد الله بن مسعود – من أوائل الصحابة وواحد من أبرز قرّاء القرآن في التاريخ الإسلامي
صورة تعبيرية تمثل احد الصحابة، وهو يقف في هدوء وسط الصحراء، وتظهر عليه ملامح الوقار والتأمل. يرمز المشهد إلى شجاعته حين جهر بالقرآن في مكة متحديًا أذى قريش، ليصبح من أوائل من رفعوا صوت الوحي في وجه الظلم.

نشأة عبد الله بن مسعود: من رعي الغنم إلى خدمة النبي

وُلد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في مكة المكرمة، قبل بعثة النبي ﷺ بعدة سنوات، ونشأ في بيت فقير من بني هذيل، بعيدًا عن مظاهر الجاه الجاهلي والترف القرشي. وقد امتهن في صغره رعي الغنم، وهو عمل بسيط لكنه كان مدرسة للصفاء والتأمل والصبر، وقد اختبر فيه ابن مسعود معاني الانضباط والهدوء، فكوّنت هذه المهنة شخصيته المتأملة والخاشعة، التي لازمته طيلة حياته.

كانت أولى لحظات التحول في حياة عبد الله بن مسعود عندما التقى بالنبي محمد ﷺ، وكان يومها يرعى الغنم لأحد سادات قريش. طلب منه النبي ﷺ ذات يوم أن يحلب له من لبنها، فرفض أن يُعطيه إلا من غير ذات حمل، في موقف يدل على أمانته الشديدة. حينها أُعجب به النبي ﷺ ودعا له، وأصبح اللقاء لحظة مفصلية فتحت بابًا جديدًا لحياة عبد الله.

أسلم عبد الله بن مسعود مبكرًا، وكان من السابقين الأولين إلى الإسلام، ولم يكن له في مكة سند ولا عشيرة تحميه، لكنه لم يبالِ، بل انضم إلى بيت الأرقم حيث بدأ يتعلم القرآن الكريم من فم النبي ﷺ مباشرة، وكان ذا ذاكرة خارقة وقلب حيّ، فحفظ القرآن بسرعة وأتقنه.

وقد كانت خدمته للنبي ﷺ دائمة، حيث كان يُرافقه في سفره وحضره، ويقوم على شؤونه، حتى قيل: لم يكن أحدٌ من الصحابة أقرب إلى النبي في خلواته وسرّه من عبد الله بن مسعود.

بهذه النشأة المتواضعة، بدأ عبد الله بن مسعود مسيرته في الإسلام، لينتقل من راعٍ بسيط إلى أحد أعمدة الأمة، وعلم من أعلام القرآن الكريم.

أول من جهر بالقرآن في مكة: شجاعة تتحدى القريشيين

من أبرز المواقف التي رسّخت اسم عبد الله بن مسعود في ذاكرة الأمة، موقفه البطولي حين جهر بتلاوة القرآن في مكة، متحديًا سطوة قريش وجبروتهم. كان ذلك في أيام خافت فيها الأصوات، واشتد فيها بطش المشركين بالمستضعفين، وكان المسلمون يتلون القرآن سرًا.

اقترح الصحابة يومًا أن يُسمعوا أهل مكة القرآن جهارًا، فقال عبد الله بن مسعود: "أنا أفعل"، فقالوا له: نخاف عليك، فأنت رجل ضعيف، لا عشيرة لك. فأصرّ، وذهب إلى الكعبة، ووقف أمام صناديد قريش، ورفع صوته بتلاوة سورة الرحمن. فهاج القوم عليه، وضربوه حتى سال دمه، لكنه لم يتوقف عن التلاوة.

كان هذا الموقف مفصليًا في تاريخ الدعوة، وبيّن أن عبد الله بن مسعود ليس مجرد قاريء، بل رجل يحمل رسالة ويذود عنها بنفسه. وقد قال النبي ﷺ عن فعله هذا: "من سرة أن يقرأ القرآن غضًا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد".

لقد شكّلت هذه الحادثة منارة في طريق الجهر بالدعوة، وأثبتت أن صوت عبد الله بن مسعود لم يكن صوت قرآن فحسب، بل صوت شجاعة وعقيدة وولاء مطلق لله ورسوله.

عبد الله بن مسعود ومعلم القرآن الأول

لعبد الله بن مسعود مكانة عظيمة في علم القرآن الكريم، فقد كان أول من سمع القرآن من فم النبي ﷺ، وأول من حفظه، وأول من علّمه للناس. وقد قال النبي ﷺ: "استقرئوا القرآن من أربعة: عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب".

وكان عبد الله بن مسعود يقول: "والله، ما من آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم متى نزلت وأين نزلت ولمن نزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني لتوجهت إليه". هذا يدل على مدى رسوخ علمه وفهمه لكتاب الله.

وقد علّم عبد الله القرآن لعدد كبير من التابعين، ومن أبرز تلاميذه علقمة والأسود، وهما من كبار علماء الكوفة، وانتقل من خلالهم علم القرآن إلى الأمة، فكان عبد الله بن مسعود الأساس الأول في بناء مدرسة الكوفة القرآنية.

لقد كان عبد الله بن مسعود بحق معلم القرآن الأول بعد رسول الله ﷺ، وكانت له طريقة خاصة في التلاوة والتدبر، فكان يجمع بين الحفظ والفهم والتفسير، وهذا ما جعل علماء السلف يعتمدون عليه في فهم كثير من الآيات.

عالم الفقه والسنة: فقيه الصحابة وثقة الأمة

لم يكن عبد الله بن مسعود قاريء قرآن فقط، بل كان من أعلم الصحابة بالفقه وأحكام الشريعة، فقد تربى على عين النبي ﷺ، وشهد التنزيل، وفهم المقاصد. وكان يقول: "ما من باب من أبواب الحلال والحرام إلا وقد علّمني إياه رسول الله ﷺ بنفسه".

وقد أفتى عبد الله في مسائل دقيقة، واعتمد عليه الخلفاء بعد النبي ﷺ، خصوصًا عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، وكان مرجعًا في القضاء والفتوى. كما أنه روى عن النبي أكثر من 800 حديث، واعتمد عليه أهل الكوفة كمصدر موثوق للسنّة.

وقد قال عنه عمر بن الخطاب: "كنيفٌ مُلئ علمًا"، أي وعاء امتلأ علمًا وفضلًا. وكان عثمان يثق به لدرجة أنه جعله مسؤولًا عن بيت مال الكوفة، وأرسله ليعلّم الناس الدين هناك.

كان ابن مسعود يرى أن العلم أمانة، فكان يُعلّم الناس لا ليتفاخر، بل ليهدي، وكان يحرص على الدقة في الفتوى، ويكره التسرع في إصدار الأحكام.

عبد الله بن مسعود والزهد في الدنيا

كان ابن مسعود زاهدًا عابدًا، لا يلتفت إلى متاع الدنيا، ولا تغرّه المناصب ولا الأموال. كان لباسه بسيطًا، ومأكله يسيرًا، وبيته متواضعًا. وقد عرض عليه عثمان مالًا كثيرًا، فرفضه، وقال: "إني لست بحريص على دنياكم".

وكان يقضي ليله في التلاوة والصلاة، ويخشع في صلاته خشوعًا عجيبًا، حتى قيل إن صوته بالبكاء يُسمع من خارج بيته. وكان يحب أن يُذكر بالله، ويذكّر الناس بالآخرة، فكان كلامه دعويًا عميقًا.

وقد وصفه التابعون بأنه من أرقّ الناس قلبًا، ومن أكثرهم ذكرًا لله، ومن أشدهم اتباعًا لسنة النبي ﷺ. ولم يكن زُهده تظاهرًا، بل نابعًا من إيمان عميق وصدق في العقيدة.

عبد الله بن مسعود في الكوفة: تأسيس مدرسة علمية كبرى

حين أرسله عمر بن الخطاب إلى الكوفة ليكون معلمًا وقاضيًا، لم يكن مجرد مبعوث، بل كان مؤسسًا لمدرسة علمية ستخرج منها أعظم العلماء. فقد أسس عبد الله بن مسعود مدرسة الكوفة الفقهية، التي أثّرت لاحقًا على فقه أبي حنيفة والمدارس العراقية.

كان يُعلّم التابعين القرآن، ويشرح لهم السنن، ويُفسّر لهم الأحكام، ويُربيهم على الورع والعلم. وقد أخذ عنه علقمة، والأسود، ومسروق، وهؤلاء صاروا أئمة العلم في زمنهم.

لقد كانت الكوفة مدينة علم بفضل عبد الله بن مسعود، وكان العلماء يفدون إليه من كل مكان، يتعلمون منه، ويأخذون عنه.

مواقفه مع الخلفاء: نصيحة لا تعرف المجاملة

لم يكن عبد الله بن مسعود ممن يُجاملون الحكام أو يتزلفون، بل كان ناصحًا أمينًا، يُقدّم النصيحة بقلب صادق. وقد قال له عمر بن الخطاب يومًا: "كُنت صغير الجسم عظيم الشأن".

وكان إذا رأى منكرًا في الحكم أو مخالفة، نبّه إليها بلطف ووضوح. وعندما بدأ بعض الولاة يتوسّعون في الزينة والترف، أنكر عليهم ذلك. وقد عاش في زمن عثمان، وكان يُحسن الظن به، لكنه خالفه في بعض مسائل تنظيم بيت المال، وأبدى رأيه بصراحة.

وفاه عبد الله بن مسعود وبكاء الأمة عليه

توفي عبد الله بن مسعود سنة 32 هـ في المدينة المنورة، بعد حياة حافلة بالعطاء والعلم والجهاد والدعوة. وقد بكاه الصحابة والتابعون، وقالوا: "مات اليوم علمٌ من أعلام الأمة".

ودُفن بالبقيع، وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان النبي ﷺ قد تنبأ له بمكانة عالية، وقال: "رضي الله عن ابن أم عبد".

 الدروس المستفادة من حياة عبد الله بن مسعود  رضي الله عنه

من حياة ابن مسعود نتعلم أن القرآن يرفع أهله، وأن العلم مع التقوى يصنع الرجال، وأن من بدأ من لا شيء قد ينتهي وهو في قمم المجد.

نتعلم من شجاعته، ومن زهده، ومن علمه، ومن إخلاصه في النصح، أن العالم لا بد أن يكون قدوة، وأن العزة في اتباع الحق.

عبد الله بن مسعود صوت خالد في تاريخ الأمة

يبقى عبد الله بن مسعود علمًا خالدًا، لا يُذكر القرآن إلا وذُكر اسمه، ولا تُذكر الفتوى إلا وذُكر أثره، ولا يُتلى حديث إلا وتردد صوته في ساحات الفقه. لقد كان رجلًا بأمة، وصوتًا للقرآن، ومُفسرًا للوحي، وناصحًا للخلفاء، وزاهدًا في الدنيا.

1. ما هو أكثر موقف من حياة عبد الله بن مسعود أثر فيك؟ ولماذا؟

2. كيف ترى أثر عبد الله بن مسعود على فهم الأمة للقرآن والفقه؟

3. هل ترى أن زهد ابن مسعود يُمثل نموذجًا يُحتذى به في عصرنا؟ شاركنا رأيك في التعليقات.

مقالات ذات صلة:


عصور ذهبية
عصور ذهبية