📁 آخر الأخبار

نساء في الحكم:10 قصص نساء حكمن الممالك الإسلامية من خلف الستار

 في تاريخنا الإسلامي، كثيرًا ما طغت أسماء السلاطين والخلفاء على صفحات السجلات، لكن خلف تلك العروش، وفي ثنايا القصور، وُجدت نساء لم يكنّ مجرد متفرجات، بل صانعات قرار، وقيادات بارزة، وشخصيات لعبت أدوارًا حاسمة في توجيه دفة الحكم. بين جدران الحريم، ومن خلف ستائر السياسة، ظهرت نساء كتبن أسماءهن في كتب التاريخ الإسلامي بمداد من قوة ودهاء وشجاعة، متحديات القيود الاجتماعية والسياسية التي أحاطت بهن.

هذا المقال ليس مجرد رصد لأسماء نسوية عابرة، بل هو غوص عميق في قصص عشر نساء حقيقيات حكمن أو أثّرن في دول إسلامية كبرى، في فترات مختلفة من التاريخ، من الدولة الفاطمية والعباسية، إلى العثمانية والمماليك، وحتى سلطنة دلهي والأندلس. سنسافر عبر العصور لنكتشف كيف كانت الخيزران تدير دولة بأكملها من خلف الستار، وكيف قادت شجرة الدر مصر في أصعب لحظاتها، وكيف أدار عقل ستّ المُلك الدولة الفاطمية بدهاء أدهش الرجال.

ولأن السرد وحده لا يكفي، فقد حرصنا على توثيق كل قصة من خلال مصادر تاريخية معروفة، مع تحليلٍ يُبرز كيف استطاعت هؤلاء النساء أن يصبحن رموزًا في عوالم كان يُفترض أن تكون ذكورية بالكامل. قصص هؤلاء النساء ليست فقط دروسًا في التاريخ، بل أيضًا في القيادة، والإرادة، والذكاء السياسي.

استعد لرحلة في عالم الحريم السلطاني، والسياسة المخفية، والمعارك النفسية بين السلطة والجندر. فأنت على موعد مع نساء في الحكم، أولئك اللواتي حكمن العالم الإسلامي... من حيث لا يتوقعه أحد.

1.الخيزران: من جارية يمنية إلى سيدة القصر وصانعة الخلفاء

بداية غير متوقعة لجار ية يمنية

في أسواق النخاسة بالبصرة، كانت "الخيزران بنت عطاء" مجرد جارية يمنية ذات ملامح آسرة وذكاء حاد، لم يكن أحد يتخيل أن هذه الفتاة ستتحول إلى واحدة من أقوى نساء الدولة العباسية. اشتراها الخليفة المهدي وأُعجب برجاحة عقلها وسرعة بديهتها، فلم تلبث أن أصبحت حبيبته المفضلة، ثم زوجته، وأم وليي العهد: الهادي وهارون الرشيد.

صورة واقعية للسلطانة الخيزران بنت عطاء داخل قصر الخلافة العباسية، ترتدي زيًا ملكيًا فاخرًا ، تعكس مكانتها السياسية كأم الخلفاء في العصر العباسي.
صورة واقعية للسلطانة الخيزران بنت عطاء داخل قصر الخلافة العباسية، ترتدي زيًا ملكيًا فاخرًا ، تعكس مكانتها السياسية كأم الخلفاء في العصر العباسي.

امرأة تحكم من خلف الستار

مع صعود المهدي إلى سدة الخلافة، بدأت الخيزران في نسج شبكتها الخاصة داخل القصر. لم تكن مجرد زوجة خليفة، بل كانت مستشارة ومقررة في كثير من الأمور السياسية. وعندما توفي المهدي عام 169هـ، وُلِّي ابنها موسى الهادي الخلافة، فحاول الحد من سلطتها، بل ووصل به الأمر إلى تهديدها بالتصفية، خاصة بعد أن اتهمها بالتدخل في شؤون الحكم وتعيين رجالها في المناصب الحساسة.

انقلاب الأم على ابنها

رغم كل ما أظهرته من أمومة، لم تتراجع الخيزران أمام تهديدات ابنها، بل تشير مصادر تاريخية إلى أنها قد تكون لعبت دورًا في موته المفاجئ عام 170هـ، ما فتح الطريق أمام ابنها الأصغر، هارون الرشيد، لتولي الخلافة. وهكذا ضمنت الخيزران استمرار سلطتها ونفوذها من خلال ابنها الذي كانت تثق في ولائه الكامل.

سيدة بغداد التي صنعت خلفاء

استمرت الخيزران تمارس نفوذها في عهد الرشيد، وكانت لها الكلمة العليا في تعيين القادة والوزراء، بل كانت تلتقي الوفود وتوزع الأموال على الشعراء والفقراء. وقد أمر هارون الرشيد ببناء مسجد عظيم لها يُعرف اليوم بـ"جامع الخيزران" في بغداد، تخليدًا لمكانتها.

الخيزران لم تكن فقط امرأة نافذة، بل مثالًا مبكرًا على قوة الجاريات في تحريك عجلة السياسة العباسية. قصة حياتها تختصر صعودًا غير مألوف من سوق الجواري إلى قلب السلطة، مما يجعلها أولى النماذج البارزة في مقالنا عن النساء اللواتي حكمن التاريخ من خلف الحجاب.

2. شجرة الدر: من سوق الجواري إلى عرش مصر بقبضة من حديد

جاريةٌ تاجُها الذكاء... وعرشها السيوف

حين دخلت شجرة الدر سوق الجواري، لم يكن أحد ليتنبأ بأن هذه الفتاة الجذابة ذات الملامح الأرمنية أو التركية – إذ يختلف المؤرخون في أصلها – ستصبح يومًا أول امرأة تحكم مصر في عصر إسلامي قائم على السيف لا القلم، وعلى الذكورة لا السياسة النسوية. بدأت قصتها كجارية ضمن حريم السلطان الصالح نجم الدين أيوب، أحد ملوك الدولة الأيوبية، فأسرت قلبه بعقلها الحاد ورزانتها اللافتة، فاختصّها دون غيرها، ورفعها من مجرد جارية إلى زوجة ملكية تُستشار في شؤون الحكم.

العقل المدبّر في زمن السقوط

في عام 1249م، وبينما كان الصالح نجم الدين أيوب يحتضر في المنصورة بسبب المرض، كانت شجرة الدر هي الحاكم الفعلي لمصر. أخفت نبأ وفاته حتى لا تهتز الدولة أثناء الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع، واستمرت تُصدر المراسيم باسم السلطان الميت، متظاهرةً بأنه لا يزال على قيد الحياة. بل واستدعت ابنه توران شاه على وجه السرعة من حصن كيفا ليتولى العرش رسميًا، لكن الأمور لم تسر كما أرادت، إذ كانت علاقتها مع توران شاه مشحونة منذ لحظة وصوله، خاصة بعد أن أهانها وتجاهل نفوذها في القصر.

من الدم إلى التاج

تُشير المصادر التاريخية مثل ابن إياس والمقريزي إلى أن شجرة الدر لعبت دورًا مباشرًا في اغتيال توران شاه عام 1250م، بالتنسيق مع المماليك الذين كانوا يدينون لها بالولاء. وهنا حدث الحدث الأعظم: تولّت شجرة الدر الحكم رسميًا، وأعلنت نفسها "الملكة المتوّجة بمصر"، لتكون بذلك أول امرأة مسلمة تحكم مصر على الإطلاق، وهو حدث هزّ الأوساط السياسية والدينية في العالم الإسلامي. ورغم أن حكمها دام 80 يومًا فقط، إلا أنه غيّر مجرى التاريخ، ومهّد لقيام دولة المماليك، التي أسستها فعليًا من خلال زواجها من عز الدين أيبك لاحقًا.

سقوط ملكة وحكاية انتقام

لم يكن من السهل أن تبقى امرأة في عرش السلطنة طويلًا. فعندما بدأ عز الدين أيبك يطمح للاستقلال بالحكم، حاولت شجرة الدر التخلص منه، إلا أن مكيدتها فشلت، فقتلها رجال السلطان الجديد بوحشية، وضربوها بالقباقيب حتى الموت، في حادثة أوردها المقريزي بتفصيل مأساوي. ماتت شجرة الدر، لكن اسمها بقي خالدًا، محفورًا في جدران قلعة صلاح الدين، ومسجلاً في كتب التاريخ كأنثى كسرت هيبة التقاليد.

3. ست المُلك: العقل المدبر في البلاط الفاطمي الذي أطاح بالخليفة

من ابنة الخليفة إلى مهندسة الانقلابات السياسية

في قلب الدولة الفاطمية المزدهرة بالقاهرة، برزت شخصية نسائية فريدة حطّمت القيود التقليدية، وشاركت في صنع القرار من خلف الحجاب السياسي. إنها ست المُلك، ابنة الخليفة العزيز بالله، وأخت الخليفة الحاكم بأمر الله، والتي لعبت دورًا خطيرًا في كواليس الحكم خلال أخطر مراحل الدولة الفاطمية.

وُلدت ست الملك في أسرة حاكمة، وتربّت في أروقة القصور الفاطمية التي كانت تعج بالثقافة والعلم والسياسة. امتازت منذ صغرها بذكاء لافت، وحنكة في إدارة الأزمات، وقد ورثت عن والدها العزيز بالله سمات الحزم والبصيرة، ما أهلها لتكون واحدة من أكثر نساء القصر نفوذًا وتأثيرًا في بلاط الخلافة.

التلاعب بخيوط السلطة في ظل الخليفة الحاكم

عندما اعتلى الحاكم بأمر الله العرش وهو في سن الحادية عشرة، تولّت ست الملك بشكل غير رسمي مهمة الإشراف على شؤون الحكم إلى جوار الوزراء. لكن الأمور تعقدت بعد أن شبّ الحاكم وأصبح أكثر ميلًا للاستبداد والقرارات الغريبة. بدأت ست الملك تشعر بالخطر، خاصة بعد أن أقدم على التخلص من رجال دولتها المقربين، وبدأ يشكك في ولاء الجميع، بما فيهم أخته.

لكن ست الملك لم تكن من النوع الذي يستسلم بسهولة. بدأت تنسج خيوط خطة دقيقة لعزل شقيقها دون أن تثير ثائرة الجيش أو الرعية. وقد استعانت بعدد من كبار القادة ورجال الدولة الذين شعروا بالضيق من تصرفات الحاكم، مثل قائد الشرطة برغوان، فكوّنت تحالفًا داخليًا خطيرًا قلب موازين السلطة.

مقتل الحاكم وبزوغ نجم ست الملك

في عام 411هـ / 1021م، اختفى الحاكم بأمر الله في ظروف غامضة أثناء تجواله الليلي في جبل المقطم، دون أن يُعثر على جثته أبدًا. وتشير أغلب المصادر التاريخية، مثل كتاب "اتعاظ الحنفا" للمقريزي، إلى أن ست الملك كانت العقل المدبر وراء هذه الحادثة، رغم أن الاتهام لم يثبت رسميًا قط. لكن المؤشرات كلها، بما فيها تصعيدها السريع لأحد أبناء الحاكم وتوليها شؤون الدولة لفترة بعد غيابه، تؤكد ضلوعها في عملية الإطاحة به.

ست الملك... صورة نادرة للمرأة الحاكمة

لم تحكم ست الملك مصر رسميًا كخليفة، لكنها كانت الآمر الناهي في شؤون الدولة لعدة سنوات، وظهرت توقيعاتها على المراسيم السلطانية. هي رمز للمرأة السياسية في الإسلام، تلك التي لم تكتفِ بدور الظل، بل تولت دفة القيادة في وقت الاضطراب، مستثمرة دهاءها وخبرتها لا لإنقاذ الدولة فقط، بل لإعادة توجيه مسار الحكم بأكمله.

4. رضية الدين: سلطانة دلهي التي كسرت قواعد الذكورة وواجهت النهاية المأساوية

أول امرأة تحكم سلطنة الهند الإسلامية

حين تُذكر نساء حكمن الممالك الإسلامية، تبرز رضية الدين كأيقونة فارقة في تاريخ الهند والعالم الإسلامي. لم تكن مجرد امرأة ذات طموح، بل كانت سلطانة حقيقية، جلست على عرش دلهي في زمن لم تكن فيه السياسة تعرف وجهًا أنثويًا. وُلدت رضية الدين في أوائل القرن السابع الهجري (القرن الثالث عشر الميلادي)، وكانت ابنة السلطان شمس الدين التتمش، أحد أقوى سلاطين المماليك في الهند. منذ صغرها، أظهر والدها إعجابًا حقيقيًا بذكائها، وفضّلها في كثير من الأحيان على إخوتها الذكور، فربّاها على فنون الحكم وأدب السياسة.

التتويج الذي هزّ تقاليد السلطة

بعد وفاة والدها عام 1236م، وقع الاختيار على رضية رغم الاعتراضات الواسعة من رجال الدين والجيش، الذين رأوا أن المرأة لا تصلح للحكم. لكن الشعب كان شاهدًا على كفاءتها. وقد جاء التتويج تتويجًا لموهبتها، لا لنسبها فقط. اختارت أن تخلع الحجاب السياسي، وظهرت في لباس المحاربين، تمتطي صهوة جوادها وتقود الجيوش بنفسها، في خطوة جرئية أثارت إعجاب العامة وحنق كبار الدولة. لقد خرقت كل أعراف السلطة الذكورية، وفرضت نفسها كأول سلطانة في تاريخ الهند الإسلامي، مما جعلها نموذجًا ملهمًا لكل امرأة تطمح للقيادة.

المؤامرات والانهيار المفاجئ

رغم نجاحها في صد التمردات الداخلية وتسيير شؤون الدولة بكفاءة، لم تستطع رضية الصمود أمام مؤامرات الحاشية. أُطيح بها بعد ثلاث سنوات فقط من الحكم، على يد أحد الأمراء الطامعين، وسُجنت ثم هربت، لكنها قُتلت عام 1240م في ظروف غامضة، لتطوى صفحة واحدة من أعظم قصص سلطانات الهند. ورغم قصر مدتها، فقد سجلت اسمها في التاريخ بحروف من نور، كواحدة من أقوى نساء حكمن الممالك الإسلامية.

5. السلطانة كوسم: المرأة التي حكمت الدولة العثمانية في أوج صراعاتها

من نشأة غامضة إلى نفوذ لا يُضاهى

وُلدت كوسم سلطان حوالي عام 1590م في جزيرة كريت، تحت اسم آنا أو ماريا بحسب بعض الروايات. اقتيدت غنيمة حرب إلى قصر طوب قابي وأُلحقت بالحرملك العثماني، حيث اختلف المؤرخون في أصلها اليوناني أو البلقاني. لكن المذهل أنّ كوسم تحولت بسرعة من جارية خادمة إلى سيدة البلاط، بعدما أسرت قلب السلطان أحمد الأول (حكم 1603–1617م) بجمالها وذكائها. هنا بدأ مسارها نحو السلطانات العثمانيات اللواتي تحدّين القيود المفروضة على الحريم.

بداية الإمارة بالثغور: الأم والوصية

ما إن اعتلى أحمد العرش، حتى أنجبت له كوسم أولاده: أورخان، سلطان مراد الثالث (لاحقًا)، محمود، وعثمان. وبعد وفاة أحمد عام 1617م، تولى أخوه السلطان مصطفى الأول العرش، فتمتعت كوسم بنفوذٍ غير مسبوق كـوليّة أمر، حيث أصدرت الكتب السلطانية وقرّرت مصائر الرجال الأقوياء في الدولة. وبعد خلع مصطفى لفترة وجيزة، جاء نجلها مراد الرابع (حكم 1623–1640م)، وكان قصره في أوج الصراع مع الفرس والأوروبيين. هنا ظهرت كوسم قائدةً مطلقة في ورشة الحكم العثماني، تدير شؤون الدولة أثناء حروب «القسطنطينية الشرقية» وأزمة التمويل، فاستُدعي إليها كبار وزرائها كـ(صلطاني) و(عثماني).

نفوذ بلا منافس: القصر كدولتها

خلال عهد مراد الرابع، كانت كوسم السلطانة الأم، تدير الخزانة وتعيّن الولاة وتُصادق على المعاهدات. وعندما وافته المنية عام 1640م، اعتلت محنة جديدة: تناوب إخوتها وأبناءها على الحكم، فبرزت ابنة كوسم تورخان سلطان كخصم سياسي شرس. دخلتا في صراعٍ ضاري داخل الحريم، حتى اغتيلت كوسم عام 1651م بأمر من تورخان، وفق ما رواه المؤرخ إسكندر باشا في مذكرات البلاط، إذ اعتُبرت عقبة أمام طموحات الجيل الجديد.

إرث السلطانة: أيقونة نساء التاريخ العثماني

لم تكن كوسم مجرد سلطانة عثمانية، بل شخصية حكمية استراتيجية قلبت معايير السلطة في الإمبراطورية. تركت خلفها إرثًا من الوفرة المالية في أوقات الحروب، وشبكة علاقات دبلوماسية رفيعة المستوى مع البندقية وفارس. ورغم نهايتها الدموية، فإن قصتها تبقى درسًا عن نساء في التاريخ العثماني وقدرتهن على تشكيل مصير الأمم من وراء الجدار المرصَّع بالحرير.

6. عائشة الحرة: الأم الأندلسية التي حركت ابنها لقتال الإسبان حتى النهاية

دورها الخفي في الحفاظ على غرناطة وصناعة قائد مقاوم

في لحظات انطفاء شمس الأندلس، وسط ضياع المدن واحدة تلو الأخرى تحت وطأة الإسبان، ظهرت شخصية نسائية فريدة قلبت الموازين من داخل أسوار القصر: عائشة الحرة، زوجة السلطان أبي الحسن علي وأم آخر ملوك غرناطة، أبو عبد الله محمد الصغير. لم تكن مجرد امرأة في البلاط، بل كانت حارسةً للهوية، تسند ابنها في خضم الانكسارات، وتدفعه نحو الثبات والمقاومة حتى آخر رمق من المجد.

من الحريم إلى صانعة القرار

عُرفت عائشة بلقب "الحُرّة" ليس فقط نسبًا إلى أسرة نبيلة من الأندلس، بل لأن شخصيتها المتحررة من القيود التقليدية جعلتها فاعلةً في السياسة أكثر من النساء في عصرها. وعندما تزوج السلطان من امرأة إسبانية مسيحية اسمها "ثُريا"، تحولت عائشة إلى رمز للكرامة والتمسك بالهوية الإسلامية، وأصبحت محورًا لصراع القصر.

الانقلاب السياسي وتهيئة الوريث

حين بدأ السلطان أبو الحسن يفقد شعبيته بسبب تقاربه مع المسيحيين وانشغاله بثريا، قادت عائشة انقلابًا سياسيًا حقيقيًا. دفعت بابنها محمد إلى الحكم، وساعدته في الاستيلاء على العرش سنة 887هـ/1482م. لم تكن أمًا فقط، بل كانت مستشارة وموجهة وصاحبة كلمة في تفاصيل القرارات الكبرى.

القوة الناعمة في وجه السقوط

رغم أن محمد الصغير عُرف بالضعف والتردد، إلا أن المؤرخين مثل المقري في "نفح الطيب" وغيرهم يذكرون أن صلابة أمه كانت الملاذ الأخير لغرناطة. كانت تحثّه دومًا على الثبات، وتُذكّره بأنه "خير له أن يموت على أسوار غرناطة من أن يُسلّمها بلا قتال"، كما جاء في إحدى الروايات الشهيرة.

النهاية الموجعة وبداية الأسطورة

عندما اضطر محمد في النهاية لتسليم مفاتيح غرناطة إلى الملكين الكاثوليكيين عام 897هـ/1492م، التفت إلى الوراء باكيًا، فصرخت فيه أمه بعبارتها الخالدة: "ابكِ كالنساء ملكًا لم تحافظ عليه كالرجال". تلك الجملة التي بقيت رمزًا لمرارة النهاية، وحكمة النساء في قلب لحظة الانهيار.

عائشة الحرة لم تكن فقط أمًا لملك، بل كانت أمًا لفكرة: أن الكرامة لا تورّث، بل تُنتزع، ولو من قلب الهزيمة.

7. السلطانة صفية: أم السلاطين وصانعة القرار خلف ستار الحريم

من الأسر إلى العرش: صوفيا التي أصبحت صفية سلطان

في قلب الإمبراطورية العثمانية، وسط دهاليز القصر، برزت امرأةٌ لم تكن كغيرها من نساء الحريم. إنها صفية سلطان، واحدة من أكثر نساء الحكم العثماني تأثيرًا في تاريخ السلطنة، ومن أبرز رموز ما يُعرف بعصر "دولة الحريم". وُلدت باسم "صوفيا"، ويُرجّح أنها كانت من أصول بوسنية أو ألبانية. أُسرت وهي في ربيع طفولتها، ثم نُقلت إلى قصر الباب العالي، وهناك خضعت لتربية صارمة وتعليم راقٍ، كجزء من سياسة إعداد الجواري اللاتي قد يصبحن يومًا جزءًا من نخبة القصر.

السلطانة صفية في فناء القصر العثماني محاطة بالخدم والجواري بملابس فاخرة تعكس هيبتها التاريخية
السلطانة صفية، إحدى أعظم نساء الدولة العثمانية، تظهر في فناء القصر محاطةً بالخدم والجواري، في مشهد يبرز فخامتها ونفوذها السياسي داخل الحرملك

زوجة السلطان وأم ولي العهد

جمالها وذكاؤها أسرا قلب الأمير مراد، الذي أصبح لاحقًا السلطان مراد الثالث، وسرعان ما ترقت صفية في الحريم لتصبح "خاصكي سلطان" أي الزوجة المفضلة. حين أنجبت له ابنه محمد، ارتقت إلى مرتبةٍ أعلى، حيث أصبحت والدة السلطان المقبل، وهي المكانة التي غيّرت حياتها إلى الأبد. عند تولّي محمد الثالث العرش، نالت صفية لقب السلطانة الأم، أعلى مراتب النساء داخل القصر، وبدأت تمارس سلطتها السياسية والدينية والاجتماعية بكل حنكة.

حاكمة من خلف الستار وعينٌ على أوروبا

استطاعت صفية سلطان أن تتحكم في مفاصل الدولة عبر تعيينات الوزراء، والتواصل مع السفراء، وخاصة مع سفارة إنجلترا، حيث أقامت علاقة دبلوماسية مميزة مع الملكة إليزابيث الأولى. كشفت المراسلات بين السفارة الإنجليزية في إسطنبول والملكة عن دورها المحوري في توجيه السياسات الخارجية، وبراعتها في اللعب على توازنات القوى داخل الإمبراطورية.

أثرها المعماري والديني

امتد نفوذ صفية سلطان إلى مجالات العمران والخير، حيث أسست العديد من المساجد والمدارس، وأشهرها مشروع مسجد "يني جامع" في إسطنبول، الذي ظلّ علامة على قوتها ورغبتها في ترك بصمة خالدة.

نهاية حكم ونفوذ مستمر

بعد وفاة ابنها محمد الثالث وصعود حفيدها أحمد الأول، بدأ نجمها بالأفول، لكنها بقيت رقماً صعباً في المعادلة حتى وفاتها عام 1619م. ويكفي أنها لقّبت بـ"أم السلاطين"، فقد أنجبت سلطانًا، وكانت جدةً لآخر، وكتبت سطورًا خفية في تاريخ الحكم العثماني.

8. فاطمة بنت عبد الملك: زوجة الخليفة الزاهد التي غلبت القصور بزهدها

أميرة الخلافة التي اختارت طريق الزهد

في قلب الدولة الأموية، حين كان البذخ عنوان القصور، والترف هوية القصور في دمشق، وُلدت فاطمة بنت عبد الملك بن مروان، حفيدة الخلفاء، وابنة أحد أعظم رجال الدولة. نشأت في بيت الخلافة وتربّت في كنف السلطة والنعيم، وكانت أختًا لعدة خلفاء أمويين. غير أن حياتها لم تأخذ المسار المألوف لبنات الملوك، بل اتجهت نحو طريق أقل بهاءً وأكثر نورًا، حين اختارت أن تكون زوجة عمر بن عبد العزيز، الرجل الذي عُرف بلقب "خامس الخلفاء الراشدين"، والذي غيّر شكل الحكم الأموي من داخل القصر.

من القصور إلى الكوخ: حين تخلّت عن كل شيء

عندما تولّى عمر بن عبد العزيز الخلافة عام 99 هـ (717 م)، تغيّرت حياة فاطمة رأسًا على عقب. كان زوجها قد قرر أن يُعيد للأمة صورتها الأولى، أن يحكم بالعدل ويهجر ترف القصور، فباع جواهر الدولة وكنوز الخلفاء، ووزّع أموال الخزانة على الفقراء والمحتاجين. وهنا جاء دور فاطمة، التي كانت تملك من الحلي والذهب ما يعادل كنوز القصور، لكنها وقفت في موقف تاريخي نادر، حين سلّمت كل ما تملك من ذهب وجواهر إلى بيت المال، طاعة لله، ووفاءً لطريق زوجها في الحكم.

زهدت حين أغراها السلطان

لم يكن موقف فاطمة مجرد دعم عاطفي لزوجها، بل كان خيارًا إيمانيًا. كانت تدرك أنها تخسر امتيازات عظيمة، وتتنازل عن مظاهر العيش الرغيد، لكنها كانت ترى في ذلك قُربًا من الله. لم تبكِ على مجد ضائع، ولم تندب حظها كأميرة تُجرد من زينتها، بل كانت تشد أزر زوجها في كل لحظة. كانت تُعينه على السهر من أجل حاجات الناس، وتُشجعه على الإنفاق من ماله الخاص، وكانت كلماتها بلسمًا في طريقه الشاق.

وفاتها.. وذكرها العطر

لم تكن فاطمة فقط زوجة لخليفة عادل، بل كانت شريكة في مشروع نهضوي أخلاقي. وبعد وفاة عمر بن عبد العزيز، لم ترجع فاطمة إلى ترفها القديم، بل بقيت على حال الزهد، واحتفظ التاريخ باسمها ضمن النساء النادرات اللاتي اخترن الله على الدنيا. تُروى عنها كلمات نادرة تُظهر صدق إيمانها وصبرها، ويُقال إن عمر بن عبد العزيز نفسه كان كثيرًا ما يقول: "ما أعانني على الخلافة أحد كما أعانتني فاطمة".

فاطمة بنت عبد الملك لم تكن فقط ابنة خليفة أو زوجة خليفة، بل كانت نموذجًا نادرًا لامرأة عرفت أن السلطة ليست متعة، بل مسؤولية أمام الله، فاختارت أن تعيش كما عاش السلف الصالح، تاركة خلفها صورة خالدة عن نساء في الزهد الإسلامي، تعلّمنا أن العظمة لا تُقاس بالمُلك، بل بالتضحية من أجل الحق.

9. زبيدة بنت جعفر: صاحبة "درب زبيدة" التي روّت قوافل الحجاج في قلب الصحراء

بين القصور العباسية وقلوب الحجاج العطشى

في زمن كانت فيه الصحراء تحكم بالظمأ، وقوافل الحجاج تموت عطشًا في طريقها الطويل من بغداد إلى مكة، برزت امرأة من بيت الخلافة العباسية لا بالسلطان، بل بالرحمة والإرادة. زبيدة بنت جعفر، حفيدة الخليفة المنصور وزوجة الخليفة هارون الرشيد، لم تكن مجرد سيدة ذات مكانة في قصر بغداد، بل كانت رمزًا لفعل الخير الذي خلد اسمها في ذاكرة الزمان.

بداية الفكرة... دمعة حجاج ومشروع عمر

أثناء حجها، تأثرت زبيدة بما رأته من معاناة الحجاج الذين يُقاسون العطش في الصحارى القاحلة، فقررت أن تُسخّر مالها ونفوذها لخدمة طريق الحج. أمرت ببدء مشروع ضخم لحفر الآبار، وإنشاء البرك والسدود، ومدّ قنوات المياه من منابع بعيدة، في عمل هندسي مذهل لعصرها. لم تكن النية مجرد صدقة، بل خطة طويلة الأمد أُنجزت باهتمام هندسي دقيق، وبلغت تكلفتها ما يُقدّر بملايين الدنانير العباسية.

"درب زبيدة": الطريق الذي أنقذ آلاف الأرواح

أُطلق على هذا الطريق الحيوي اسم "درب زبيدة"، تخليدًا لما قدّمته من عطاء. امتد الطريق لمسافة تقارب 1500 كيلومتر، من الكوفة حتى مكة المكرمة، مزوّدًا بمحطات استراحة، ومنازل للراحة، وأماكن للتزود بالماء، ما جعل رحلة الحج أكثر أمنًا وسهولة. أصبح هذا الطريق شريانًا للحجاج والتجار معًا، واستُخدم لقرون بعد وفاتها.

إرث خالد لامرأة عابرة للعصور

لم تكن زبيدة عالمة أو سلطانة أو قائدة عسكرية، لكنها كانت امرأة أدركت كيف تُخلد أثرها في زمن الرجال. اسمها لا يزال محفورًا في خرائط الحجاج، وفي كتب التاريخ كواحدة من أبرز النساء في تاريخ الحضارة الإسلامية. مبادرتها لم تكن حدثًا عابرًا، بل إرثًا إنسانيًا رُويت به أفئدة الملايين.

10. دلشاد خاتون: السلطانة الجلائرية التي سيّرت المملكة من وراء الستار

سيدة القصر والظل: بداية صعود دلشاد خاتون

في القرن الرابع عشر الميلادي، وسط صراعات الأمراء والمماليك، برزت امرأة من بين الظلال القصرية، لترسم لنفسها دورًا فريدًا في واحدة من أكثر الممالك اضطرابًا في تاريخ الإسلام: الدولة الجلائرية. دلشاد خاتون، زوجة السلطان حسن الكبير بن أويس الجلائري، لم تكن مجرد زوجة سلطانية تقف خلف البلاط في صمت. بل كانت العقل المدبر، والمستشار الأوثق، واليد التي امتدت خلف العرش لتؤثر في قرارات الحكم والتحالفات المصيرية. تلك المرأة التي ولدت في زمن كانت فيه النساء يُحبسن بين الجدران، كانت استثناءً حيًا لقواعد الصمت والخضوع.

بين القوة والحكمة: دورها في إدارة الدولة الجلائرية

لم تكن الدولة الجلائرية مستقرة بطبيعتها. فقد تشكّلت من صراعات داخلية وحروب خارجية مستمرة، ما جعل السلطة فيها لا تستقر طويلًا في يد أحد. لكن دلشاد خاتون استطاعت بذكائها السياسي أن تفرض توازنًا نادرًا، وخاصة خلال عهد زوجها السلطان حسن، الذي حكم بين عامي 1356 و1374م. وبالرغم من أن المصادر التاريخية لم تذكر دلشاد خاتون بتفصيل كثير، فإن إشارات المؤرخين لدورها الخفي تظهر أنها كانت قوة لا يُستهان بها. فهي التي هدّأت النزاعات بين أمراء القبائل، وهي التي رتبت تحالفات الزواج التي حصّنت الدولة من الانقسام، ويُقال إنها كانت تدير شؤون الحكم في غياب السلطان أو في فترات مرضه.

Delshad Khatun, the Jalayirid sultana, standing regally in a Persian palace courtyard, wearing luxurious embroidered garments, surrounded by handmaidens
تصوّر هذه الصورة الاحترافية والواقعية السلطانة دلشاد خاتون، إحدى أبرز نساء الدولة الجلائرية في القرن الرابع عشر الميلادي، وهي واقفة بكل هيبة في فناء قصر فارسي فاخر. ترتدي السلطانة ثوبًا ملكيًا بديعًا يجمع بين الطابع المغولي والفارسي، مطرز بالخيوط الذهبية ومرصّع بالأحجار الكريمة، مع طرحة حريرية شفافة تغطي شعرها. حولها عدد من الخدم والجوارِ يقدمون لها الطيب والماء والعطور، في مشهد يعكس الفخامة والدقة التاريخية. يغمر المكان ضوء طبيعي ناعم، بينما تتزين الخلفية بالبلاط الإسلامي والزخارف المنقوشة والأقواس المزخرفة

الحضور في الغياب: التأثير الخفي على السلطان حسن الطويل

اللافت في قصة دلشاد خاتون ليس فقط نفوذها داخل القصر، بل قدرتها على البقاء في الظل، دون أن تتصدّر المشهد رسميًا. لم تحمل لقب "السلطانة الحاكمة" كما فعلت نساء في ممالك أخرى، لكنها كانت حاكمة بالفعل، تحرّك خيوط السياسة من خلف الستار، كما تفعل أصابع ماهرة في رقعة شطرنج. ويرى بعض المؤرخين أن قدرتها على التأثير في السلطان حسن الطويل، المعروف بشراسته وبُعده عن مشورة الغير، كانت نتيجة علاقة قائمة على الاحترام المتبادل، والثقة في حنكتها. وهذا ما جعلها واحدة من النساء المؤثرات في التاريخ الإسلامي رغم غيابها عن الأضواء.

نهاية صامتة وذكرى باقية

بعد مقتل السلطان حسن في صراع دموي داخلي، انزوت دلشاد خاتون عن المشهد السياسي، وقلّ ذكرها في كتب المؤرخين، كما هو حال الكثير من الأميرات المسلمات اللائي لم يُنصفهن التأريخ. لكن آثارها السياسية بقيت حاضرة في استقرار الدولة لفترة من الزمن بعد رحيل زوجها، ما يبرهن على أن نفوذها لم يكن عابرًا. بل كانت واحدة من أولئك النساء اللواتي شكّلن مجرى السياسة بصمت، دون أن يحملن سيفًا أو يجلسن على العرش.

خاتمة: حين تصنع النساء مجد الدول وتكتب التاريخ

وهكذا، نكون قد عبرنا معًا صفحات خفية من التاريخ الإسلامي، كشفنا فيها عن وجوه نسائية لم تكتفِ بدور التابع أو الظل، بل تقدّمن الصفوف، وحملن على عاتقهن مسؤوليات الحكم والقيادة في أوقات عصيبة، وأحيانًا حاسمة. من شجاعة شجرة الدر التي أنقذت مصر من الفوضى، إلى دهاء ستّ الملك التي سيّرت الدولة الفاطمية بحنكة نادرة، وصولًا إلى رضية الدين أول سلطانة في الهند، ودلشاد خاتون التي أدارت دولة الجلائريين بكل حزم ودهاء.

تُثبت هذه القصص أن النساء في الحكم لم يكنّ استثناءً ولا حالات نادرة، بل جزءًا أصيلًا من نسيج التاريخ الإسلامي، وإن حاولت بعض الروايات طمس أدوارهن. لقد لعبت القيادات النسائية الإسلامية دورًا محوريًا في إدارة شؤون الدولة، وصنع القرار، بل وأحيانًا في الدفاع عن الحدود والكرامة والسيادة.

إن قراءة هذه النماذج ليست مجرد استحضار لماضٍ مجيد، بل دعوة لإعادة النظر في الصور النمطية، والتأمل في دور المرأة في التاريخ الإسلامي، لا بوصفها تابعًا، بل فاعلًا ومؤثرًا وشريكًا في صناعة المجد. وما أجدر نساء اليوم بأن ينهلن من إرث تلك العظيمات، لا ليستنسخنه، بل ليبنِينَ عليه مجدًا جديدًا.

فبين أنامل الجواري، ودهاء الملكات، وحكمة الأمهات، كُتب تاريخٌ آخر... لا يعرفه إلا من قرأ بتأنٍ، وفتّش فيما وراء الروايات الرسمية. تلك هي حكايات النساء اللواتي حكمن، وغيّرن، وبقين خالدات في ذاكرة الزمن.

شاركنا رأيك فى تعليق!

  • هل كنتَ تعلم أن التاريخ الإسلامي شهد هذا العدد من النساء اللواتي وصلن إلى سدة الحكم؟
  • من من هؤلاء النساء العشر أثارت إعجابك أكثر؟ ولماذا؟
  • لو أُتيحت لك الفرصة لتكتب عن امرأة مسلمة أخرى لعبت دورًا سياسيًا أو قياديًا، من ستختار ولماذا؟
مقالات ذات صلة!

عصور ذهبية
عصور ذهبية