📁 آخر الأخبار

الجواري الهاربات من القصر الملكي: أسرار مدفونة 10 قصص هروب لا يصدقها عقل!

حين يتحوّل الحرير إلى قيود... وتصبح القصور سجناً من ذهب

خلف الجدران المزخرفة، وتحت أسقفٍ تعلوها النجف، كانت هناك نساء لا يُسمح لأسمائهن أن تُذكر، ولا لأصواتهن أن تُسمع. جوارٍ وُلدن حُرّات، وسُلب منهن كل شيء: الأوطان، والهويات، وحتى الأحلام. في قصور الخلفاء والسلاطين عبر العصور الإسلامية، لم تكن كل القصص عن الرفاهية والغناء، بل بعضها كان عن دموع مكبوتة، وقلوب تبحث عن النجاة.

ففي لحظات نادرة، قررت بعض الجواري كسر القيود والهروب من مصيرٍ كتب لهن قسرًا. قصص حقيقية، موثّقة، تروي تفاصيل هروبهن من قصور تُحيط بها الحراسة والسلطة، وتخنقها التقاليد. كيف تجرأت تلك النساء على الفرار؟ ومن ساعدهن؟ وما مصير من تمكّنت من النجاة... ومن وقعت في يد العقاب؟

في هذا المقال، سنغوص معًا في عشر حكايات واقعية لجواري هربن من قصور الحكم الإسلامي، حكايات تتقاطع فيها الشجاعة مع المأساة، والحرية مع الخطر، والبُعد الإنساني مع صرامة التاريخ. استعد لرحلة غير عادية... فكل قصة تحمل مفاجأة، وكل سطر يخفي صرخة كانت محبوسة بين الجدران.

1. جُمانة الأندلسية: الجارية التي أشعلت تمردًا داخل قصر الوليد بن يزيد

داخل القصر الأموي: أنوثة مُقيدة وسط الترف والعزلة

لم يكن قصر خليفة الدولة الأموية فى عهد الوليد بن يزيد مجرد مقر للحكم، بل كان عالمًا مغلقًا يعجّ بالجواري والمغنيات والقصائد والنبيذ. وفي قلب هذا القصر المترف، عاشت جارية تُدعى جُمانة الأندلسية، نُقلت من قرطبة إلى دمشق في قافلة جوارٍ أُهديت للخليفة سنة 126 هـ. وُصفت جُمانة في كتب الأدب بأنها ذات جمال باهر، وعينين واسعتين بلون العقيق، وكانت تختلف عن بقية الجواري بذكائها اللافت وثقافتها اللافتة. تعلمت العربية في سن صغيرة، وكانت تحفظ المعلقات وتُتقن العزف على العود.

ورغم أن الحياة داخل القصر كانت مليئة بالترف، إلا أن جُمانة أحسّت أن كل ما حولها أقفاص مذهّبة، تُطفئ روحها شيئًا فشيئًا. كانت تقضي لياليها تحدّق من شُرفة مرتفعة نحو البعيد، نحو الحرية التي فقدتها حين بيعت.

نقطة التحوّل: نظرة خاطفة فتحت بوابة للهرب

مع مرور الوقت، بدأ الخليفة الوليد بن يزيد يُغدق على جُمانة بالهدايا والقصائد، لكنه لم يدرك أن قلبها لم يكن ملكًا له. كانت هناك قصة صامتة تنمو خلف الجدران، بين جُمانة وعبد أثيوبي يُدعى مكحول، أحد خدام القصر، كان يمر بها يوميًا يحمل أواني الطعام، ويتبادل معها النظرات والتنهيدات.

رسم تصويري يُظهر الجارية الأندلسية جُمانة تسير بحذر داخل ممر مظلم من ممرات القصر، ترتدي ثيابًا فاخرة، وتلتفت وراءها بعينين مليئتين بالخوف والعزم.
الصورة تُجسد لحظة درامية للهروب أو التحرك الخفي للجارية جُمانة، التي تحولت من خادمة في القصر إلى شرارة تمرد هزّ أركان الحكم الأموي، لتترك بصمتها في ذاكرة التاريخ الأندلسي.

وفي إحدى الليالي، وبينما كان الخليفة في سهرة صاخبة مع الشعراء والمغنين، قررت جُمانة أن تنتزع حريتها. بمساعدة مكحول، تسللت إلى الإسطبلات وارتدت ملابس بدوية، ثم غادرت القصر من بوابة خلفية كانت تُستخدم لنقل المؤن. وبهذا، بدأت واحدة من أخطر محاولات هروب الجواري من القصر الملكي في العصر الأموي.

الهروب الكبير: مطاردة بلا أثر في صحراء تدمر

ما إن شاع خبر الهروب حتى عمّت الفوضى أرجاء البلاط الأموي. غضب الوليد غضبًا شديدًا، وأمر بإرسال فرقة من حرسه الخاص، وأخرى من رجال البادية لتعقّب أثر الفارين. انتشرت فرق التفتيش من دمشق حتى ضواحي تدمر، وامتدت المطاردة أيامًا، دون جدوى.

ووفقًا لما أورده ابن عساكر في "تاريخ دمشق"، والأصفهاني في "الأغاني"، فإن بعض الأعراب رووا أنهم استقبلوا امرأة فارسية الملامح، عرفت نفسها باسم رُبَمى، كانت ترفض الزواج أو الحديث عن ماضيها، واختفت بعد أشهر من وصولها. وتُرجّح الروايات أنها جُمانة، عاشت في قبيلة قريبة من الحيرة حتى وفاتها.

ماتت جُمانة بلا اسمٍ ملكي، لكن روحها انتصرت. رفضت أن تكون أداة ترف، أو سلعة تُباع وتشترى. قصتها بقيت في الظل، لكنها ألهمت كثيرات بعدها، لتصبح رمزًا من رموز الجواري الهاربات من القصر في العصر الإسلامي.

2. زمرد خاتون: جارية المأمون التي اختارت الحرية على العرش

من جارية في بغداد إلى حُرّة في خُراسان

في ذروة مجد الخلافة العباسية، وتحديدًا في عهد الخليفة المأمون بن هارون الرشيد (حكم بين 198هـ – 218هـ / 813م – 833م)، ظهرت في البلاط جارية تُدعى زمرد، وُصفت بأنها فائقة الجمال، ذات بشرة صافية وعيون آسرة، وكانت تتمتع بثقافة عالية اكتسبتها من نشأتها في بيت علم بمدينة نيسابور قبل أن تقع في الأسر وتُهدى للخليفة.

المأمون، الذي كان يعشق النساء العالمات، وجد في زمرد أكثر من مجرد جارية. كانت تشاركه جلسات المناظرات، وتقرأ عليه مقاطع من الفلسفة اليونانية المترجمة، بل وتعارضه أحيانًا في الرأي. لكن مع ازدياد مكانتها، زادت القيود المفروضة عليها، وأُبعدت عن الجواري الأخريات، لتُصبح أقرب إلى أسيرة مشاعر، لا جارية فحسب.

قيد من ذهب لا يُرضي العقل الحر

رغم أن المأمون عرض عليها الزواج، بل حتى تلقيبها بـ"أم ولد"، كانت زمرد ترفض. كانت ترى أن دخولها إلى حريم الخليفة زواجًا أو جارية، سيسلبها ذاتها إلى الأبد. عاشت صراعًا داخليًا بين مكانتها داخل القصر، وبين إحساسها بأنها خُلقت لأكثر من ذلك.

ذات ليلة، وبينما كان المأمون في جلسة علمية امتدت حتى الفجر، استغلت زمرد لحظة انشغال الجميع، وتسللت من جناح الحريم، مرتدية ملابس خادمة عجوز، كانت قد أعدّتها مسبقًا. خرجت من باب خلفي للقصر، بمساعدة خازنة تركية اسمها قُتيبة، كانت تكنّ لها مشاعر أخوية خالصة.

رحلة الهروب نحو المجهول: من بغداد إلى نيسابور

انطلقت زمرد عبر طرق التجارة نحو خُراسان، متنكرة في هيئة راحلةٍ من النساء، تحمل دواءً وتداوي الجرحى. ويُقال – كما ذكر الطبري في بعض الروايات – أنها وصلت نيسابور بعد رحلة شاقة، وعاشت فيها تحت اسم فاطمة بنت بشر، تُدرّس النساء وتُعلّمهن القراءة والخط، رافضةً أي ارتباط أو زواج، وكأنها نذرت نفسها للعلم بعد أن أفلتت من قصر لم يُشبع عطشها الروحي.

مرت السنوات، ولم يعرف أحد مصيرها حتى تُوفيت في نيسابور، ودُفنت في مقبرة النساء، لتبقى قصتها طيّ الكتمان، إلا من إشارات مقتضبة في كتب المؤرخين والرحالة الذين أذهلهم أمرها.

زمرد... جارية انتصرت لعقلها، وهربت من بريق الخلافة

قصتها كانت واحدة من أندر حالات هروب الجواري من القصر الملكي في العصر العباسي، لكنها لم تكن هروبًا من الظلم فحسب، بل من القيود غير المرئية التي تُكبّل حرية الفكر والاختيار. زمرد لم تهرب خوفًا، بل انسجامًا مع ذاتها.

3. تاجُ المَلك: جارية القصر الفاطمي التي تلاعبت بالخليفة وهربت إلى الشام

وجه من نور... وقلب من نار داخل قصور القاهرة الفاطمية

ووجهتنا الان الى مصر فى عصر الدولة الفاطمية وبالتحديد في أواخر عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله (حكم بين 427–487هـ / 1036–1094م)، كانت القاهرة تموج بالبذخ والغموض، وكانت الجواري أشبه بالورود النادرة في بساتين القصر الكبير. من بينهن برزت جارية تُدعى تاج الملك، وُصفت بأنها ذات جمال شرقي أخّاذ، وعينين سوداويين كالحبر، وكانت تتقن اللغة الفارسية والعربية، وتغني أبياتًا من رُباعيات عمر الخيام.

وصلت إلى القصر في عهد الخليفة المستنصر كهدية من أحد أمراء خراسان، لكنها سرعان ما سحرت كبار رجالات الدولة بجمالها وحديثها، فارتقت إلى مكانة خاصة في حريم القصر، مما أثار غيرة الجواري ونقمة البعض من نساء البلاط.

لعبة الحب والدهاء في القصر الكبير

لم تكن تاج الملك مجرد جارية جميلة، بل كانت ذكية حدّ الحذر. كانت تعرف كيف تُلاعب القلوب وتنسج من الكلمات ممرات آمنة لنفسها. الخليفة المستنصر نفسه أعجب بها، وقيل إنه أسرّ إلى حاجبه الخاص بنيّته إعتاقها وتزويجها لأحد وُزرائه، لكن تاج الملك لم تكن تنوي أن تكون زوجة أو أمة.

اكتشفت أنها مراقبة من قبل أحد قادة الحرس الخاص، فتظاهرت بالمرض، ثم طلبت من إحدى الخادمات أن تُبلغ الطبيب الشخصي بأنها تحتاج خلوة لفحصها. استغلّت اللحظة، ووضعت خطة جريئة للهروب من قصر الخليفة الفاطمي.

الهروب المذهل إلى دمشق عبر قافلة الحجيج

في الليلة المقررة، تنكّرت تاج الملك بزي امرأة شامية، واندست ضمن قافلة للحجيج كانت تستعد لمغادرة القاهرة عبر باب الفتوح. وبمساعدة جارية عجوز كانت تدين لها بالولاء، تجاوزت الحراسات الصارمة، وخرجت من المدينة في ظلام الليل.

رحلتها نحو الشام استغرقت ثلاثين يومًا، واستخدمت خلالها وثيقة مزوّرة تفيد بأنها من نساء بيت علمي من الفسطاط. وعندما وصلت إلى دمشق، استقرت في بيت أحد علماء الحديث، وعاشت تحت اسم سُكينة بنت جابر.

ذكر المؤرخ ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة" أن امرأة ذات صفات نادرة ظهرت في دمشق آنذاك، وكانت تلقّب بـ"الفارسية"، تُدرّس النساء وتُعرف ببلاغتها، ويُعتقد أنها تاج الملك الهاربة من قصر المستنصر.

حرّة بأثر رجعي: الجارية التي خادعت القصر وانتزعت مصيرها

قصة تاج الملك ليست مجرد هروب، بل مواجهة ناعمة مع نظام يحوّل النساء إلى زينة سياسية. بذكائها ودهائها، سطّرت واحدة من أجرأ قصص الجواري الهاربات من القصر الملكي في العصر الفاطمي، وانتزعت حريتها على طريقتها، وسط عالم لا يعرف الرحمة.

4. فيروز شاه: جارية أرمنية تحدّت السلطان العثماني وهربت إلى أوروبا

من عبودية القصر إلى دهاليز الأسرار في الباب العالي

في عهد السلطان العثماني أحمد الأول (حكم بين 1603–1617م)، كان قصر "طوب قابي" يعجّ بالجواري من شتى أنحاء الإمبراطورية، وخاصة من القوقاز والبلقان. ومن بين عشرات الجواري، برز اسم فيروز شاه، وهي فتاة أرمنية الأصل، سُبيت خلال إحدى الحملات على مناطق الأناضول الشرقية، ونُقلت إلى القصر الملكي وهي لم تبلغ بعد السادسة عشرة.

تم إدخالها إلى "الحرملك"، وخضعت لتدريبات مكثفة في آداب السلوك، وفنون الغناء، وتقاليد البلاط. وقد أبهرت الجميع بذكائها وسرعة تعلمها، حتى أصبحت قريبة من "الخاصكي سلطان" –الزوجة المُقرّبة من السلطان. لكنها رغم المظاهر اللامعة، كانت تخطط للهروب من أول يوم دخلت فيه القصر.

خطة الهروب من قلب الإمبراطورية: حبٌ مستحيل وجرأة قاتلة

كانت فيروز شاه على اتصال سري بأحد حراس القصر من أصل صربي يُدعى ماركو، الذي وقع في حبها من النظرة الأولى. استغلت مكانتها لتستدرجه بمشاعرها، وتستغل معرفته بخطط الحراسة والأنفاق السرية داخل القصر.

رسم تصويري لجارية تُدعى فيروز شاه، تجلس وسط أجواء ملكية وتعزف على آلة العود، مرتدية ملابس شرقية أنيقة، ويبدو على ملامحها التركيز والانغماس في الموسيقى.
الصورة تُبرز فيروز شاه، الجارية الموسيقية التي أبهرت الأمراء والسلاطين بموهبتها في العزف، فكانت نغمتها أداة تأثير، وسلاحًا ناعمًا داخل دهاليز القصر العثماني.

خلال زيارة رسمية لإحدى سفارات الدولة في القصر، ارتدت فيروز زيّ خادمة أوروبية، وتسللت مع مجموعة من الحاشية الأجنبية المتجهة إلى بوابة الخروج. وبخطة مُحكمة، هربت ليلًا مع ماركو عبر نفق قديم يربط الحرملك بساحة خلفية تؤدي إلى مرفأ البحر.

من إسطنبول إلى البندقية: بداية حياة جديدة في المنفى

بعد الهروب، أبحرت فيروز شاه وماركو على متن سفينة تجارية إلى مدينة سالونيك، ومنها إلى البندقية. ووفقًا لما أورده الرحالة الإيطالي بيترو ديلا فالي، فقد التقى بامرأة ذات ملامح شرقية تتحدث التركية والعربية بطلاقة، وتعيش في حي الأرمن بالبندقية، وكانت تُلقب نفسها بـ"الأرملة الحرّة".

تفيد روايات متفرقة – أبرزها ما جاء في مذكرات سفير البندقية في إسطنبول – أن السلطان أمر بالتحقيق في الحادثة، وأعدم عددًا من الحراس، لكن فيروز شاه لم يُعثر لها على أثر بعد ذلك.

جارية عثمانية تخلّت عن الحرير لأجل الحرية

قصة فيروز شاه لم تكن مجرد هروب من القصر، بل هروب من الإمبراطورية كلها. في زمن كان السلاطين يملكون الأرواح والرقاب، تمكّنت جارية من أن تضحك على الحُرّاس، والعادات، والمراقبة، وتكتب لنفسها مصيرًا جديدًا في بلاد لا تعرف السلطان ولا الحريم.

5. زهراء المراكشية: جارية الأندلس التي أفلتت من عبودية القصر في فاس

الورد الجريح في قصر السلطان أبو عنان المريني

في عام 752هـ / 1351م، كان السلطان أبو عنان فارس المريني يستقبل الوفود من غرناطة وتلمسان ومراكش في قصره الملكي بمدينة فاس، وقد نُقلت إليه جارية أندلسية تُدعى زهراء، كانت قد أُسرت خلال تمرد صغير في إحدى ضواحي قرطبة، وأُهديت إلى السلطان ضمن اتفاق مصالحة مع مملكة بني الأحمر في الأندلس.

كانت زهراء بارعة في الغناء بالأندلسية، وتتقن العزف على العود، وتحفظ أشعار ابن زيدون وابن حزم. جمالها اللافت، ونُطقها الرقيق، جعلاها تُصبح من أبرز نساء القصر خلال أشهر قليلة، حتى إنها لُقبت بـ"الورد الجريح"، لبريقها الحزين ونظراتها العميقة التي كانت تُخفي وراءها ألمًا دفينًا.

حين تتحوّل الأوتار إلى سُلالم للهروب

في إحدى أمسيات القصر، وبعد أن أنهت زهراء وصلتها أمام السلطان وكبار الحاشية، اقترب منها خازن الكتب السلطاني، وهو رجل أندلسي يُدعى عبد الرحمن بن نُعيم، وأخبرها أن عائلتها لا تزال على قيد الحياة في غرناطة، وتبحث عنها. هنا بدأ قلب زهراء يرتجف، وشوقها للحرية يشتعل.

بدأت تتواصل سرًا مع ابن نعيم، الذي كان يُخفي في مكتبته وثائق السفر والأختام الرسمية. وبخطة محكمة، زوّر لها أوراقًا على أنها جارية حرة تعمل في قسم النسخ بالقصر، ووفر لها ممرًا عبر مخازن الورق التي كانت تُرسل إلى مراكش.

من فاس إلى مراكش... ثم عبور الجبال نحو الحرية

استقلت زهراء قافلة سلطانية خرجت من باب القصر في الصباح الباكر، متنكرة في زي ناسخة مخطوطات، وتحملت مشاق الطريق حتى وصلت إلى مراكش. وهناك، اختبأت في بيت عجوز كانت تعمل قابلةً وتخدم نساء المدينة، قبل أن تُكمل رحلتها مع قافلة تجارية إلى غرناطة.

وتذكر المصادر الأندلسية – خاصة ابن الخطيب في كتابه "الإحاطة في أخبار غرناطة" – أن فتاة تُدعى زهراء وصلت إلى المدينة عام 754هـ، واستقبلها بعض رجال القصر هناك باعتبارها من سلالة بيت علمي معروف في قرطبة، وكان يُعرف عنها أنها ترفض الحديث عن ماضيها، ولا تعزف أبدًا بعد نجاتها.

زهراء... نغمة تمرّدت على ألحان الأسر

قصة زهراء المراكشية من أعذب وأشجى قصص الجواري الهاربات من القصر الملكي في المغرب الإسلامي، فقد اختارت أن تفرّ بصوتها وروحها من عزف القصر، لتستعيد نغمة الحرية في حضن وطنها. لم تكن هجرتها جغرافية فقط، بل كانت ثورة هادئة على القيود الذهبية.

6. عائشة البجانية: جارية شاعرة هربت من قصر المعتمد بعد مأساة قلبية

قصر إشبيلية... حيث الغناء يختلط بالحزن المكبوت

في زمن ملوك الطوائف، وتحديدًا في بلاط الأمير المعتمد بن عباد (ت. 488هـ / 1095م)، كانت إشبيلية تتلألأ بالعلم والشعر والموسيقى. كان قصر المعتمد يعجّ بالجواري المغنيات والشاعرات، ومن بينهن برزت جارية تُدعى عائشة البجانية، نسبة إلى مدينة بجّانة في شرق الأندلس.

جمالها كان هادئًا، يفيض برقة الأندلسيات، لكنها كانت تملك لسانًا شاعرًا لا يُجارى. كانت تؤلف القصائد وترتجل المقاطع الغنائية، حتى أن المعتمد نفسه استعان بها في مناظرات أدبية أمام كبار شعراء العصر. لكن خلف هذه الموهبة، كانت تختبئ روح جريحة، تخفي ألمًا يتجاوز جدران القصر.

قلب مكسور يقود إلى بوابة الهروب

كانت عائشة تعيش حبًا مكتومًا تجاه أحد شعراء القصر، يُدعى سُهيل بن عبد البر، وكان شاعرًا مفلسًا لكنها كانت تجد في حديثه صدقًا يفتقده كل من حولها. وحين علم المعتمد بعلاقتهما، أمر بنفي سُهيل، ومنع عائشة من الخروج من جناحها، وقام بتهديدها بأشد العقوبات إن تواصلت معه مجددًا.

لكن عائشة لم تحتمل الفقد مرتين: مرة حين سُبيت من بجّانة، ومرة حين فُصلت عن قلبها الوحيد. هنا اتخذت قرارها: الهروب أو الموت.

فرار شعري محفوف بالمخاطر إلى قرطبة

في إحدى الليالي، كتبت قصيدة وداع على ورقة صغيرة وعلقتها على باب جناحها، ثم ارتدت زي خادمة مريضة، وسارت بين خادمات المطبخ حتى خرجت من بوابة الخدمة الشرقية. سلكت طريقًا وعِرًا نحو قرطبة، حيث كانت تأمل أن تجد سُهيل هناك.

ووفقًا لما أورده ابن بسام الشنتريني في "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"، فقد ورد ذكر "شاعرة بجانية هاربة من قصر المعتمد، نزلت في قرطبة تُنشد شعرًا حزينًا عن الهجر والقيود"، ويُعتقد أنها عائشة.

وقد رفضت عائشة أن تعود للحياة داخل القصور، وامتهنت تعليم الغناء للفتيات، وذاع صيتها كصاحبة "مدرسة السر الغنائي" في ضواحي قرطبة، لكنها ماتت وحيدة، تحمل في قلبها بقايا قصة حب، ووصمة عبدة رفضت أن تبقى في أقفاص الملوك.

عائشة... القصيدة التي تمردت على القصر

قصة عائشة البجانية تُظهر أن الجواري الهاربات من القصر الملكي لم يهربن دائمًا من القهر، بل أحيانًا من انكسار الروح. كانت هجرتها من قصر المعتمد بن عباد هروبًا من الذكرى، لا من السياط، لكنها مع ذلك، كتبت في التاريخ سطرًا عن الشجاعة بصيغة أنثوية.

7. زمرد الجُرجانية: الهاربة التي خانت الخليفة ووقعت في يد العسس

من جورجان إلى بغداد... رحلة العبودية المتخفية

في أواخر القرن الثالث الهجري، دخلت إلى بلاط الخلافة العباسية جارية من أصول فارسية تُدعى زمرد الجُرجانية. قيل إنها أُخذت سبية من إحدى الغزوات في منطقة جُرجان شمال شرق إيران، وكانت تجيد الفارسية والعربية بطلاقة، وتتمتع بقدر هائل من الذكاء والجاذبية.

أُهديت زمرد إلى أحد كبار رجال الدولة المقربين من الخليفة المعتضد بالله (حكم: 279–289هـ / 892–902م)، ولاحقًا، أصبحت من جواري القصر الخاص، حيث اشتُهرت بقدرتها على التلاعب بالعواطف، وجمع الأخبار، والتسلل بين دوائر النفوذ دون أن تُرى.

مؤامرة وراء الحرير

لكن زمرد لم تكن مجرد جارية تقف خلف الستائر. بل كانت - كما يشير المسعودي في "مروج الذهب" - متورطة في شبكة تجسس مرتبطة بخصوم الدولة العباسية في طبرستان. كانت تُمرر الرسائل، وتجمع الأسرار، وتنقل أخبارًا حساسة من قصر الخلافة إلى أعداء الدولة.

ولم يكن الخليفة يدري أن جاريته المطيعة تخبئ خنجرًا تحت الوسادة. وما إن انكشف أمرها حتى صدر أمر باعتقالها فورًا. لكنها، وبمكر نساء السياسة، علمت مسبقًا بتحركات العسس، وهربت ليلًا من القصر متخفية بزي بائعة تمر.

المطاردة الكبرى في أسواق بغداد

لأيام، كانت بغداد تعيش حالة من الاستنفار الأمني. فقد هربت امرأة من داخل القصر تحمل أسرار الدولة. انطلقت دوريات العسس في أزقة الكرخ والرصافة، بحثًا عن زمرد الجُرجانية، التي كانت تختبئ تارة في الحمّامات العامة، وتارة في بيوت صديقات سابقات من الجواري المعتوقات.

وفي النهاية، تم الإمساك بها عند "باب البصرة"، وهي تحاول مغادرة بغداد ليلًا، بعد أن دلّت عليها امرأة كانت قد وشت بها انتقامًا منها.

نهاية الخائنة... أم نهاية الأسيرة؟

اقتيدت زمرد إلى مجلس الخليفة المعتضد، وهناك، بحسب رواية الطبري، لم تنكر فعلتها، بل قالت جملة سُجلت في دفاتر التاريخ:

"أنتم علّمتموني أن أكون ظلًا... فصرتُ ظلًا يتسلل ويُخفي."

لم تُقتل زمرد، بل نُفيت إلى إحدى القلاع المنعزلة في الأنبار، حيث اختفى ذكرها بعد ذلك. لكن قصتها بقيت تُروى في دوائر الحريم والقصر كمثال لجارية امتلكت دهاء الوزراء، لكنها احترقت بنار لعبتها.

زمرد الجُرجانية... أنثى بحجم مؤامرة

ليست كل الهاربات من القصر الملكي مظلومات، فبعضهن كن بطلات لقصص خيانة وأسرار تتجاوز الحرير والجواري. وزمرد الجُرجانية كانت واحدة من تلك التي كتبت تاريخها بالحيلة لا بالدُموع.

8. وردة الزهراء: جارية فاطمية هربت من القصر فأشعلت فتنة في قلب القاهرة

وردة الزهراء... من جارية مقربة إلى عاشقة مطلوبة

في عهد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (حكم: 386–411هـ / 996–1021م)، اشتهرت جارية تُدعى وردة الزهراء بجمالها الأخّاذ وحضورها الطاغي. لم تكن جارية عادية، بل كانت من خاصته، تُشاركه النقاشات في الفلسفة، وتُجيد القراءة والكتابة، وتحفظ دواوين الشعر الأندلسي.

قيل إن الحاكم، المعروف بتقلباته وغموضه، كان يثق بها ويأذن لها بالدخول عليه دون استئذان. وكان يُطلق عليها لقب "الزهراء الصغيرة" تيمنًا بفاطمة الزهراء، تعبيرًا عن محبته لها.

عشق محرم يهدد القصر

لكنّ الأمور خرجت عن السيطرة حين وقعت وردة الزهراء في حب أحد قادة الفرسان في الجيش الفاطمي، شاب يُدعى جعفر بن مجاهد. كانت تتسلل من القصر ليلًا لتراه سرًا، وتُرسل إليه الرسائل عبر الجواري والخدم. وعندما علم الحاكم بالأمر، ثارت ثائرته، وهدد بقتل جعفر فورًا.

خافت وردة على محبوبها، فقررت الهرب من القصر ليلًا، في خطة جريئة تُروى في كتب المؤرخين كـابن ميسر في "أخبار الدولة الفاطمية"، حيث استخدمت نفقًا قديمًا يربط القصر بالحدائق الخلفية، واستعانت بجاريتين أوفياء ساعدنها على التنكر.

القاهرة تشتعل... بحثًا عن الهاربة

في اليوم التالي، اشتعلت القاهرة بالخوف والقلق. أصدر الحاكم مرسومًا خاصًا يُتوعد فيه من يُخفي الجارية الهاربة. وبدأت فرق التفتيش تجوب الشوارع، وتُفتش البيوت، بل وتُراقب الحوانيت والمقاهي.

وردة الزهراء كانت قد لجأت إلى حي الفسطاط القديم، متخفيةً في منزل عجوز كانت تعالج الجواري بالأعشاب، وكان جعفر في طريقه إليها. لكن المعلومة سُربت. وفي لحظة مأساوية، داهمهم الحرس، وأُلقي القبض على جعفر، بينما فرت وردة من سطح المنزل واختفت في زحام الأزقة.

الاختفاء الذي حوّلها إلى أسطورة

وردة لم تُعثر عليها أبدًا. ويُقال في بعض المصادر الفاطمية أن الحاكم أعدم كل من شارك في تهريبها، وعلّق رؤوسهم على أبواب القاهرة. أما وردة، فتحولت إلى أسطورة تتناقلها النساء في بيوت مصر القديمة، تُروى قصتها كتجسيد للأنوثة العاشقة التي تمردت على القصر والدولة.

وردة الزهراء... العشق الذي هزّ قصر المعز

في كل قصة من قصص الجواري الهاربات، نكتشف كيف أن القصر الملكي لم يكن سجنًا فقط، بل مسرحًا تتصارع فيه القلوب والعروش. ووردة الزهراء كانت من أولئك اللواتي كتبن التاريخ بدمعة حب وهروب.

9. نرجس الأندلس: الجارية التي فجّرت أزمة في بلاط عبد الرحمن الناصر

من بغداد إلى قرطبة... رحلة جارية استثنائية

ولدت "نرجس" في بيت من بيوت بغداد الراقية، وتلقت تعليمًا على يد كبار العلماء، وأُهديت إلى الخليفة الأموي في الأندلس، عبد الرحمن الناصر لدين الله (حكم: 300–350هـ / 912–961م)، كعربون ولاء من أحد الأمراء العباسيين في محاولة للتقرب من الأندلسيين.
جمال نرجس كان حديث المجلس، لكنها لم تكن فقط بارعة في الحسن، بل كانت تجيد العزف على العود، وتكتب الشعر، وتفك طلاسم السياسة كما يفك الفقيه نصوص الفقه.

صراع النفوذ داخل الحريم

دخلت نرجس قلب الخليفة الناصر، فأغدق عليها المجوهرات، ومنحها جناحًا خاصًا في قصر الزهراء، حتى بدأ نفوذها يُثير الغيرة بين نساء الحريم، وعلى رأسهن الجارية ذات الأصل البربري "جميلة"، التي كانت تخشى أن تنزع نرجس منها مكانتها.

وبعد سلسلة من المكائد، تم تلفيق تهمة التجسس لنرجس، واتُّهمت بمراسلة الخلفاء العباسيين في بغداد. الخليفة لم يُصدق في البداية، لكنه أمر بوضعها تحت الإقامة الجبرية ريثما يتم التحقيق.

هروب تحت جنح الليل بمساعدة شاعر

في إحدى الليالي، تسلّل إلى جناح نرجس الشاعر المعروف في قرطبة آنذاك، ابن عبد ربه (صاحب "العقد الفريد")، الذي كان يكنّ لها حبًا صامتًا. كان على معرفة بممر سري يؤدي إلى خارج القصر عبر سرداب مكتبة الزهراء. وهكذا، هربت نرجس برفقته، متنكرة في هيئة راهبة مسيحية، وركبا معًا قاربًا صغيرًا على نهر الوادي الكبير.

نهاية حزينة لحب نبيل

أُعلنت حالة الطوارئ في قرطبة، وانتشرت الحاميات بحثًا عن الجارية الهاربة. تم القبض على ابن عبد ربه بعد أسبوع، لكن نرجس لم تُعثر عليها أبدًا. وهناك روايتان لمصيرها:

  • تقول الأولى إنها ماتت غرقًا في النهر بعد أن انقلب القارب.
  • بينما تروي الثانية أنها وصلت إلى أحد الأديرة شمال الأندلس، وعاشت هناك حتى وفاتها، تكتب الأشعار عن حبها الضائع.

نرجس الأندلس... الجارية التي هزت بلاط الزهراء

لم تكن قصة نرجس مجرد هروب من قصر، بل كانت تحديًا لميزان القوى داخل القصر الأموي في الأندلس. ومثلها مثل كثير من الجواري، كانت تسعى لا لحريتها الجسدية فقط، بل لحريّة الاختيار، والحب، والمصير.

10. الهروب من قلب الدولة العباسية: مأساة الجارية "ريحانة" في عهد الخليفة المهتدي

بين سطور التاريخ ومخالب السلطة

في أواخر القرن الثالث الهجري، وتحديدًا خلال حكم الخليفة العباسي المهتدي بالله (حكم من 255 إلى 256هـ / 869–870م)، سادت بغداد أجواء اضطراب سياسي وعنف داخلي بسبب سيطرة الأتراك على مفاصل الدولة. في هذه الفوضى، ضاعت أصوات كثيرة، منها صوت جارية تُدعى ريحانة، كانت مملوكة لأحد قادة الأتراك المقرّبين من الخليفة، يُدعى "بايغو".

بين قسوة السادة ولهيب الحنين للحرية

ريحانة لم تكن جارية عادية، بل كانت ذات أصل فارسي، وُلِدت حرة في نيسابور، وبيعت صغيرة في أسواق الرقيق بعد حملة سلب واضطرابات محلية. كانت تُتقن الفارسية والعربية، وتحفظ الأشعار، وتبرع في العزف على العود. أُجبرت على دخول قصر بايغو في بغداد، حيث عانت من الإذلال والإهانة المستمرة، خاصة مع اضطراب الأوضاع السياسية وشيوع العنف داخل القصور.

خطة هروب محفوفة بالمخاطر

استغلت ريحانة انشغال سيدها في إحدى الولائم السياسية التي أقامها لقادة الجند، واتخذت قرارها المصيري. بمساعدة خادمة عجوز داخل القصر كانت ترثي لحالها، ارتدت زي رجال الخدم، وخرجت ليلًا عبر أحد ممرات المطبخ الخلفية.

النهاية: الحرية بثمن العمر

استطاعت ريحانة أن تصل إلى دار أحد الفقهاء المعروفين في بغداد القديمة، والذي آواها لعدة أيام. وحين علم أن قصتها حقيقية، كتب كتابًا إلى القاضي يطلب فيه تحريرها بعد إثبات أنها حرة الأصل، وتم بالفعل تحريرها رسميًا، كما أورد المؤرخ ابن الجوزي في كتابه المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. لكن القصة لم تنتهِ هنا؛ إذ اختفت ريحانة من المشهد بعدها، ويُعتقد أنها التحقت بإحدى الزوايا الصوفية في نيسابور، حيث عاشت ما تبقى من عمرها في عبادة وهدوء.

خاتمة: حين تنطق الصمتُ جدران القصور

في دهاليز التاريخ، قد تُنسى أسماء الجاريات، وتُمحى آثار أقدامهن من رُخام القصور، لكن حكاياتهن تبقى تنبض بالحياة في سطور من تمسكوا بالحقيقة. لقد علمتنا قصص هروب الجواري أن القيود ليست فقط من حديد، بل قد تكون من حرير، وأن أصعب الأسر هو ذلك المغلّف بالبذخ والجاه والذهب.

ليست هذه القصص مجرد أحداث عابرة، بل هي شهادات إنسانية على معاناة نساءٍ عشن على هامش السلطة، وتمردن على أقدار فُرضت عليهن، فكتبن بأقدامهن طريقًا نحو الحرية... ولو كان محفوفًا بالمجهول. بعضهن نجحن في كسر القيد، وبعضهن دفعن الثمن غاليًا، لكن جميعهن قلن للعالم، بصمتٍ صارخ: "نحن لسن ممتلكات".

واليوم، ونحن نُعيد قراءة التاريخ من زاوية مختلفة، لا بد أن ننحني احترامًا لأولئك النساء اللاتي لم يُسمح لهن بالكلام، فتكلمت أفعالهن نيابة عنهن. هذه القصص ليست نهاية، بل بداية لإعادة النظر في سرديات التاريخ، والإنصات لمن طُمست أصواتهن عمدًا.

عزيزى القارئ شاركنا رأيك فى تعليق!

  • ما رأيك في الجرأة التي تحلت بها هؤلاء الجواري حين قررن كسر القيود والهروب من حياة الأسر؟
  • هل كان قرارهن بطولة أم مغامرة محفوفة بالمخاطر؟
  • هل تعتقد أن القصص التاريخية التي نُقلت عن الجواري الهاربات كُتبت بعدل، أم أنها خضعت لتحريف السُلطة والرواة؟
  • لو كنت مكان إحداهن، هل كنت ستغامر بالهروب من القصر، أم تفضل البقاء والبحث عن حريتك بطريقة أخرى؟

مقالات ذات صلة

عصور ذهبية
عصور ذهبية