في كل مرة أكتب فيها عن شخصية تاريخية، أحرص على الحياد، على السرد الموضوعي، على أن أكون المؤرخ لا المتأثر. لكن هذه المرة… الأمر مختلف. فعبد الرحمن الداخل لم يكن مجرد صفحة في كتب التاريخ، بل كان مرآة أرى فيها ذاتي. لم يكن فقط أميرًا أموياً فرّ من بطش العباسيين ليؤسس الدولة الأموية في الأندلس، بل كان إنسانًا عاش الغربة مثلي، تجرع الخذلان، وسقط أكثر من مرة، لكنه لم ينهزم.
قررت أن أكتب عن عبد الرحمن الداخل بأسلوب مختلف… لا ككاتب، بل كإنسان. سأروي حكايته لا كما جاءت في المصادر فقط، بل كما شعرت بها. سأتتبع خُطاه في طريقه من الشام إلى الأندلس، وأقف عند انكساراته كأنها انكساراتي، وأحتفل بصموده لأنه يمنحني الأمل، في كل مرة أقرأ سيرته، أن الهزيمة ليست نهاية، بل بداية.
هذه المرة، أكتب بصدق مختلف، بلغة تنبع من أعماقي، بطاقة لا تُسجّل بالحبر، بل تُحفر بالمشاعر والتجربة… فهل تسمحون لي أن أروي لكم سيرة هذا البطل كما لم تروها من قبل؟
نسب عبد الرحمن الداخل ونشأته في قصور الأمويين: من مجد الدماء إلى حنين الطفولة الضائعة
1.أمير من نسل الخلفاء الأمويين
ينتمي عبد الرحمن الداخل إلى أرومة عريقة من سلالة بني أمية، فهو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، ينحدر من بيت الخلافة الأموي الذي حكم العالم الإسلامي قرابة تسعين عامًا. وُلِد في دمشق سنة 113 هـ (731 م)، في قصرٍ من قصور الخلافة، وسط أبهة الحكم وعزّ الدولة الأموية، وكان والده الأمير معاوية بن هشام أحد أقوى قادة الدولة، وجدّه هشام بن عبد الملك من أعظم خلفاء بني أمية وأكثرهم حكمة وازدهارًا. لم يكن نسب عبد الرحمن مجرد تشريف، بل ميراثًا ثقيلاً حمله منذ ولادته، محاطًا بجدران القصور، وعطر السياسة، وعيون الطامعين.
في كنف جده هشام، نشأ عبد الرحمن الطفل متدللًا بين أجنحة الحرير ومجالس العلم، يسمع قرارات الدولة تُتخذ على مرأى منه، ويرى قوافل الخراج والجنود تدخل وتخرج بأمر أعمامه وأبيه. لم يكن طفلًا عاديًا، بل كان وريثًا محتملًا للخلافة، يتربى على عيون الحراس، وتحت سقف الخلافة الإسلامية التي امتدت آنذاك من الصين شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا.
2.سرّ التسمية: لماذا لُقّب بـ"الداخل"؟
ورغم ما حمله نسب عبد الرحمن الداخل من فخرٍ ومجدٍ، فقد أصبح اللقب الذي عُرِف به — "الداخل" — شاهدًا على فصل جديد في حياته، فصل حمل معنى الانبعاث لا الهروب. أُطلق عليه هذا اللقب بعد دخوله إلى الأندلس سنة 138 هـ (756 م)، حيث عبر البحر من المغرب واستقر في "الجزيرة الخضراء"، ليبدأ تأسيس الدولة الأموية في الأندلس. ولأنه أول أمير أموي يدخل الأندلس ويقيم فيها دولة مستقلة عن الخلافة العباسية، حمل هذا اللقب الفريد الذي يختصر ملحمة وجوده كلها: "عبد الرحمن الداخل".
عبد الرحمن الداخل: من شظايا السقوط إلى أولى ملامح المجد الأندلسي
1.هروب ليس كغيره… نجاة بحجم أمة
لم يكن سقوط الدولة الأموية مجرد حدث سياسي عابر، بل زلزالًا هزّ كيان عبد الرحمن الداخل من جذوره. شاب لمّا يبلغ العشرين، يرى أهله يُذبحون، وخلافة أجداده تُنهب، وأحلام طفولته تتهاوى أمام عينيه. حين اجتاحت سيوف العباسيين دمشق سنة 132 هـ (750 م)، لم يكن أمامه سوى الهروب... لا لحماية نفسه فقط، بل لحماية الذاكرة الأموية ذاتها. انطلق من الشام، عابرًا فلسطين فمصر، ومنها إلى أحراش المغرب، ومعه طفل صغير وخادم وفيّ يُدعى بدر، وما هو أثمن من ذلك: حلم لا يسمح بالموت. حلم بقي حيًا في صدره، يقاوم الانكسار، يُطعَمه من الجوع، ويسقيه من ظمأ الخوف. هنا تبدأ قصة الدولة الأموية في الأندلس، لا من بلاط الحكم، بل من خيمة هارب، قلبه يحترق، وعيناه تبحثان عن أفق جديد يليق بما تبقّى من المجد.
2.من أمير تائه إلى صانع حضارة
لم تكن رحلة عبد الرحمن الداخل نحو الأندلس مجرد هروب من مصير محتوم، بل كانت عبورًا داخليًا نحو النضج التاريخي. لقد خسر كل شيء: العرش، والجاه، والأسرة. لكنه ربح ذاته. صقلته الصدمات، وأيقظت فيه القائد المختبئ تحت عباءة الأمير المدلل. وصل إلى الأندلس سنة 138 هـ (756 م)، لا بجيش ولا بأموال، بل بكاريزما نادرة وحكمة ولّدت من المعاناة. أقنع القبائل، واستمال العقول، وبدأ يؤسس نواة دولة ستغيّر وجه الأندلس إلى الأبد. لم يكن الأمر سهلًا، لكنه كان يملك ما هو أثمن من العتاد: الإيمان بنفسه، واليقين بقدرته على إعادة كتابة التاريخ. لقد فهم عبد الرحمن أن الغربة ليست ضعفًا، بل فرصة، وأن من يسقط مرة قد يولد من جديد إذا امتلك إرادة لا تنكسر.
الهروب العظيم: من المطاردة العباسية إلى تأسيس الدولة الأموية في الأندلس
1.الفرار من الشام: القرار المصيري لعبد الرحمن الداخل
لم يكن خروج عبد الرحمن الداخل من الشام سنة 132 هـ (750 م) مجرد محاولة للنجاة، بل كان خطوة أولى نحو حلم كبير سيصنع تاريخًا جديدًا في الغرب الإسلامي. بعد نهاية الحكم الأموي على يد العباسيين بقيادة ابو العباس السفاح، تغيّرت الخريطة السياسية، وأصبح بقاء أبناء البيت الأموي في المشرق أمرًا محفوفًا بالمخاطر. وجد عبد الرحمن نفسه مضطرًا لمغادرة وطنه، فودّع كل ما يربطه بالشام: القصور، الذكريات، والروابط العائلية.
اختبأ لفترة قصيرة في قريته، ثم بدأ رحلة طويلة من الشام إلى المغرب، مرورًا بفلسطين ومصر، حيث كان يتحرك بسرّية تامة لتفادي ملاحقة السلطة الجديدة. ومعه في الرحلة كان خادمه المخلص بدر، وطفله الصغير، وحلم لا يغيب عن باله: أن يجد أرضًا جديدة تُعيد للبيت الأموي حضوره وقوته.
2.من الغربة إلى الأمل: بناء الطريق نحو الأندلس
رغم صعوبة الطريق، لم يفقد عبد الرحمن ثقته في أن الظروف قد تمنحه فرصة جديدة. عبر الصحراء حتى وصل إلى برقة، ثم واصل المسير إلى بلاد المغرب، وهناك بدأ يلتقي ببعض المؤيدين والأنصار من بقايا الولاء الأموي. كان عبد الرحمن يستمع ويتأمل، يدرس الأوضاع بعقلية القائد، خاصة بعد أن سمع بما تشهده الأندلس من انقسامات سياسية وصراعات قبلية بين العرب والبربر، واليمانية والقيسية.
أدرك أن الأندلس يمكن أن تكون نقطة الانطلاق المثالية لمشروعه، فبعث برسائل سرّية إلى أنصاره هناك، وقد لبّى اليمانيون النداء وأرسلوا وفدًا للتواصل معه. لم يكن عبد الرحمن يملك جيشًا أو موارد كثيرة، لكنه امتلك أمرًا لا يقل أهمية: الشرعية النسبية، والكاريزما القيادية، والقدرة على قراءة اللحظة التاريخية. وهكذا تحوّلت رحلته الصعبة إلى مقدمة مشرقة لتأسيس الدولة الأموية في الأندلس التي ستغيّر وجه التاريخ لقرون قادمة.
العبور إلى الأندلس: من اللاجئ المطارد إلى مؤسس الدولة الأموية الجديدة
1.من سواحل المغرب إلى ضفاف قرطبة: القرار الجريء لعبور المضيق
كان عبد الرحمن الداخل يقف على شواطئ المغرب، يحدّق في الأفق نحو الأندلس. لم يكن ذلك البحر الفاصل مجرّد مسافة، بل حاجزًا بين ماضٍ مضطرب ومستقبل واعد. اتخذ قراره الحاسم: العبور إلى الأندلس، تلك الأرض التي كانت تموج بالانقسامات والصراعات، وتفتقر إلى زعيم يملك الشرعية والحكمة معًا.
كانت الأندلس آنذاك تحت حكم يوسف الفهري، رجل يفتقر إلى قاعدة شرعية قوية، وتواجهه خلافات قبلية بين العرب القيسيين واليمانيين، إضافة إلى نزاعات مع البربر. وسط هذه الفوضى، ظهر عبد الرحمن الداخل كأمل جديد. لم يحمل معه جيشًا جرّارًا، بل اعتمد على ولاء القبائل اليمنية، وعلى صورته كأمير أموي شرعي يسعى لتوحيد البلاد تحت راية العدل والاستقرار.
2.معركة المصير: لحظة إعلان الدولة الجديدة
ما إن عبر عبد الرحمن الداخل مضيق جبل طارق حتى بدأت ملامح التغيير تتشكل. انضم إليه اللاجئون الأمويون، وشيوخ القبائل، وحتى بعض البربر الذين وجدوا فيه شخصية جامعة قادرة على إنهاء الانقسام. تقدّم نحو قرطبة بخطى ثابتة، والتقى قوات يوسف الفهري في معركة حاسمة عُرفت لاحقًا بـ"معركة المصارة".
رغم قلة عدد قواته، نجح عبد الرحمن في كسب المعركة بفضل ذكائه العسكري وتحالفاته المدروسة. فرّ الفهري من ساحة المواجهة، وبهذا الانتصار الرمزي، أعلن عبد الرحمن الداخل نفسه أميرًا على الأندلس. لم يعد لاجئًا يُطارَد، بل مؤسسًا لأول كيان سياسي مستقل عن الخلافة العباسية، عاصمته قرطبة، ومنها بدأت رحلة بناء دولة قوية ازدهرت علميًا وثقافيًا لقرون طويلة.
قرطبة: قلب الأندلس النابض وبداية الحضارة الإسلامية في الغرب
1.قرطبة من معسكر عسكري إلى عاصمة حضارية
حين دخل عبد الرحمن الداخل قرطبة بعد انتصاره في معركة المصارة، لم تكن المدينة سوى نقطة استراتيجية محدودة التأثير، أشبه بثكنة عسكرية أكثر من كونها عاصمة دولة. إلا أن الداخل، ببصيرته السياسية، أدرك أن قرطبة تحمل إمكانيات جغرافية وبشرية هائلة. تقع على نهر الوادي الكبير، في قلب الأندلس، وتربط الشمال بالجنوب والشرق بالغرب. فبدأ أولى خطوات التحوّل: تحصين المدينة، بناء الأسوار، وتنظيم الأسواق، ثم إنشاء قصر الإمارة وجعله مقرًا دائمًا للحكم.
تحت إدارة الداخل، تحوّلت قرطبة تدريجيًا إلى مدينة تُشبه دمشق في تخطيطها، وتستنسخ بعضًا من عظمتها، ولكن بروح أندلسية جديدة. تم استقدام الحرفيين من المشرق، وعُيّن القضاة، ونُظّمت شؤون القضاء والإدارة، وتم إصلاح النظام المالي والضرائبي، مما أعاد للمدينة رونقها واستقرارها. وبفضل هذه الخطوات، أصبحت قرطبة عنوانًا للاستقرار بعد سنوات من الفوضى القبلية والسياسية، وبدأت تُعرف بـ"درّة الأندلس".
2.قرطبة مركز السيادة الإسلامية في الغرب
ومع مرور الوقت، أصبحت "قرطبة عاصمة الخلافة الأموية في الأندلس"، وبدأت تكتسب دورًا سياسيًا وثقافيًا محوريًا في الغرب الإسلامي. فقد حرص عبد الرحمن الداخل على جعلها مركزًا لا يضاهى في الإدارة والعمران، كما حافظ على الاستقلال السياسي الكامل عن الخلافة العباسية، فرفض أن يُذكر اسم الخليفة العباسي في خطبة الجمعة، وأصدر العملة الخاصة بالدولة الأموية الأندلسية، في خطوة جريئة تعكس سيادة الدولة.
هذا التوجه المستقل لم يكن مجرد عناد سياسي، بل استراتيجية واعية لصناعة كيان سياسي جديد في الغرب الإسلامي، كيان يتّكئ على الإرث الأموي المجيد، لكنه في ذات الوقت يستفيد من تجارب الأندلس، ويطوّع الظروف لصالحه. وبذلك تحوّلت قرطبة إلى رمزٍ للنهضة الأموية في الأندلس، ومنها انطلقت شرارة حضارة استثنائية، امتدت آثارها إلى أوروبا والعالم الإسلامي كله.
النهضة العلمية والمعمارية في عهد عبد الرحمن الداخل: قرطبة من مدينة إلى حضارة
1.جامع قرطبة الكبير: حين تتحوّل الأحلام إلى حجارة تنطق بالعظمة
حين وطئت قدما عبد الرحمن الداخل تراب الأندلس، لم يكن يحمل معه سوى ذكريات مجدٍ ماضٍ وشغفٍ ببناء مستقبل جديد. وقد وجد في قرطبة التربة الخصبة لتلك الرؤية. ففي عام 170 هـ (786 م)، أطلق مشروعه الأعظم: بناء جامع قرطبة الكبير. لم يكن المسجد مجرد صرحٍ ديني، بل كان بيانًا سياسيًا وثقافيًا صامتًا. أراد به أن يثبت أن الأمويين لم ينتهوا، بل نهضوا من رمادهم في الغرب كما العنقاء.
المسجد استلهم روح العمارة الدمشقية، لكنه تفرّد بلمسات أندلسية خالصة، جمعت بين الأقواس الحمراء والبيضاء، والساحات الواسعة، وروح المكان التي تعكس هيبة الدولة. لم يكن هذا البناء رمزًا دينيًا فحسب، بل صار قلب المدينة النابض، يجتمع فيه العلماء والقضاة، وتُتخذ فيه القرارات المصيرية. لقد زرع الداخل فيه روح الحضارة، فجعل من كل حجر فيه شهادةً على صموده وعزيمته.
2.قرطبة مركزًا للعلم والزراعة والإنتاج: الدولة تُبنى بالإنسان قبل العمران
لكن الداخل لم يكتفِ بالحجر، بل آمن بأن الدولة تُبنى بالعقول قبل الأبنية. ففتح أبواب الأندلس أمام العلماء والفقهاء القادمين من دمشق وبغداد، ومنحهم الأمان والمكانة. جلس بنفسه في حلقات العلم، وشجّع إنشاء المدارس، وأمر بجمع الكتب وتأسيس المكتبات، ليصنع بذلك من قرطبة جامعة مفتوحة قبل أن تُولد فكرة الجامعات في أوروبا.
وامتدت رؤيته إلى الزراعة والاقتصاد، فطوّر نظم الري، وحفر القنوات، واستورد محاصيل جديدة من الشام والمغرب، مما انعكس على الحياة اليومية للناس ورفع من مستوى المعيشة. كانت سياسته شاملة: بناء الإنسان، وتطوير الأرض، وترسيخ العلم، ليُحول الأندلس من ولاية منهكة إلى منارة تزدهر في ظل راية أمويّة جديدة.
مواجهة التحديات الداخلية والخارجية: صراع من أجل البقاء السياسي
1.التحديات الداخلية: تمردات الطوائف والانقسامات القبلية
رغم أن عبد الرحمن الداخل نجح في ترسيخ سلطته سريعًا في الأندلس، إلا أن الأرض التي وطأها لم تكن هادئة، بل كانت تعج بتمردات الطوائف المحلية، ونزاعات القبائل العربية، لا سيما بين القيسية واليمانية. كان أبرز التمردات بقيادة الصميل بن حاتم، زعيم طليطلة القوي، الذي رفض الخضوع لحكم الأمير الأموي. غير أن عبد الرحمن لم يلجأ إلى البطش المفرط، بل دمج بين الحزم العسكري والحكمة السياسية، فاستطاع القضاء على التهديد دون إشعال حرب أهلية شاملة. كما سعى إلى تقليص التوترات بين القبائل، فقام بتحالفات مرحلية، وأعاد ترتيب مراكز النفوذ، مما ساعده على تفكيك جبهات المعارضة من الداخل.
2.التهديد الخارجي: عين العباسيين على الأندلس
في الوقت الذي كان عبد الرحمن الداخل يعيد ترتيب البيت الأموي في الغرب الإسلامي، كانت الخلافة العباسية بقيادة الخليفة أبو جعفر المنصور تتابع الأحداث في الأندلس عن كثب، وتعتبر الأمير الأموي تهديدًا مباشرًا لشرعيتها. فقد رأى المنصور أن بقاء عبد الرحمن في الأندلس يُبقي شبح الدولة الأموية حيًا، ما قد يُضعف هيبة الخلافة العباسية في أعين المسلمين. لذلك، قرر إرسال حملة عسكرية قوية في عام 146 هـ / 763 م بقيادة العلاء بن مغيث، بهدف القضاء على الداخل وإعادة الأندلس إلى الحكم العباسي.
لكن عبد الرحمن الداخل لم يُظهر ارتباكًا، بل استعد للمواجهة بذكاء وثقة. فواجه الحملة بالقرب من مدينة إشبيلية، وألحق بها هزيمة ساحقة، ليُثبت مرة أخرى أنه ليس مجرد أمير طامح، بل قائد يتمتع بكفاءة سياسية وعسكرية عالية. وبذلك، وجه الداخل رسالة صريحة إلى العباسيين: أن الأندلس باتت كيانًا مستقلًا، لا يخضع إلا لقوته الذاتية، وأن محاولات استعادتها بالقوة لن تجدي نفعًا.
الإنسان في قلب الحاكم: الغربة والحنين في حياة عبد الرحمن الداخل
رغم القوة والدهاء والشخصية الحازمة التي اشتهر بها عبد الرحمن الداخل، إلا أن داخله ظل يحمل غربة دفينة، وحنينًا عميقًا إلى أرض الشام التي وُلد فيها، وإلى دمشق التي شهدت طفولته وصباه في كنف الدولة الأموية. لم يكن عبد الرحمن مجرد زعيم سياسي يؤسس دولة جديدة، بل كان إنسانًا يحمل ذاكرة مجروحة، وذكريات عن عائلة أُبيدت، وقصور هُدمت، وحياة كاملة طُمست تحت سنابك الخيول العباسية.
لم يستطع عبد الرحمن أبدًا أن ينسى دمشق، فقد كانت محفورة في قلبه، وكان يراها في أحلامه، وفي تفاصيل حياته اليومية. كتب في ذلك شعرًا مؤلمًا، من أشهره:
"أيها الراكبُ المُيمِّمُ أرضي
أقرِ من بعضيَ السلامَ لبعضي"
هذا البيت المؤلم كتبه بعدما رأى نخلة في قرطبة تذكره بنخيل الشام، ففاض قلبه شوقًا، وتلخّصت مشاعره كلها في تلك الصورة الشعرية الحية. لقد عبّر عن مشاعر الغربة التي عاشها رغم المجد، وكشف عن إنسان لم يشفَ تمامًا من جراح النكبة. وحتى وهو في ذروة القوة والسيطرة، ظل قلبه يحن إلى أرض تركها قسرًا، وأهلٍ فقدهم إلى الأبد. تلك المفارقة بين المجد الظاهر والألم الباطن صنعت من عبد الرحمن شخصية فريدة في التاريخ الإسلامي: رجل دولة حديدي الخارج، مرهف الداخل.
لقد كانت قرطبة وطنًا جديدًا له، لكنها لم تعوّضه عن وطنه الأول. ولعل هذا الحنين العميق هو ما جعله ينجز، ويبني، ويبدع؛ كأنه كان يحاول أن يخلق دمشق جديدة على أرض الأندلس، ليصالح قلبه مع فقدٍ لا يُنسى.
نهاية أمير وبداية أسطورة: كيف ودّعت الأندلس عبد الرحمن الداخل وورثت مجده
1.إرث خالد بعد الرحيل: وفاة عبد الرحمن الداخل في عام 172 هـ
في عام 172 هـ الموافق 788 م، أغمض عبد الرحمن الداخل عينيه للمرة الأخيرة، بعد مسيرة استثنائية دامت أكثر من ثلاثين عامًا، كان فيها مؤسسًا، ومجددًا، وبانيًا لدولة إسلامية مستقلة في قلب أوروبا. عن عمر يناهز 57 عامًا، رحل "صقر قريش" عن عالم الأحياء، لكنه لم يرحل عن ذاكرة التاريخ. لم تكن وفاته مجرد حدث عابر، بل لحظة فارقة أنهت فصلًا حافلًا من النضال، وبدأت عهدًا جديدًا حمل رايته ابنه هشام الأول، الذي تابع المسيرة بروح الأب، وحافظ على استقلال الأندلس عن الخلافة العباسية في المشرق.
لقد ترك عبد الرحمن الداخل وراءه دولة قوية الأركان، ذات جيش منظم، ونظام إداري محكم، واقتصاد مزدهر، ومدن نابضة بالحياة كـ قرطبة وإشبيلية وغرناطة. كان موته بداية لترسيخ الدولة الأموية في الأندلس، لا نهايتها، فقد صارت الأندلس بعده نقطة إشعاع حضاري وثقافي امتد أثره لقرون.
2.لم يُمنح المجد... بل صنعه بيديه: عبد الرحمن الداخل وتاريخ لا يُنسى
ما يجعل عبد الرحمن الداخل متفرّدًا في صفحات التاريخ الإسلامي، ليس فقط أنه أسس دولة من لا شيء، بل لأنه فعل ذلك بروح مَن انتزع المجد انتزاعًا، لا مَن ورثه عن أب أو جد. فقد جاء إلى الأندلس طريدًا مطاردًا، بلا جيش ولا مال، لكنه امتلك الإصرار، والحكمة، ورؤية الحاكم الذي لا يستسلم للنكبة.
ترك الداخل وراءه إرثًا لا يُقاس بالبنيان وحده، بل بالهوية التي بثّها في أرض الأندلس؛ فقد جعل المسلمين يشعرون أنهم ليسوا مجرد سكان جُدد في أرض غريبة، بل بناة حضارة تضاهي حضارات المشرق، بل وتتفوق عليها في كثير من المجالات. من المساجد إلى المدارس، ومن الأسواق إلى القصور، خطّ الداخل حروفه في كل حجر ومعلم.
رحل الجسد، لكن الروح بقيت. إرث عبد الرحمن الداخل سيظل حيًا في ذاكرة المسلمين، وفي شوارع الأندلس، وفي صفحات التاريخ التي لا تنسى من أضاءت دروبها في أزمنة الظلام.
خاتمة: حين يُكتب التاريخ بروح الإنسان
قصة عبد الرحمن الداخل ليست مجرد سيرة حاكم أو سردٍ لفتوحات، بل هي حكاية إنسان قرر أن يجعل من الانكسار دافعًا، ومن الغربة وطنًا، ومن الخسارة بداية جديدة للإبداع والبناء. لم يكن القائد الذي جاء إلى الأندلس يحمل سيفًا فقط، بل جاء حاملاً جرحًا عميقًا من ماضٍ مؤلم، وإيمانًا بأن المجد لا يُورث، بل يُنتزع بالإصرار والبصيرة. لقد أعاد تعريف القيادة، فكان حاكمًا ومهندس حضارة، فارسًا لا تلين عزيمته، وشاعرًا تسكن الحنين كلماته. جعل من فقدان المشرق دافعًا لتأسيس مغرب مشرق، وصاغ من شعور الغربة هوية جامعة لأهل الأندلس. وبفضل شجاعته وذكائه وحكمته، تحولت الأندلس من ولاية ممزقة إلى دولة شامخة، تشعّ بالحضارة الإسلامية، وتنطق بلغات الفن والعلم والعمران. لقد علّمنا عبد الرحمن الداخل أن أعظم القادة هم أولئك الذين بدؤوا من الألم، ومرّوا بالتجربة، وآمنوا أن الطريق إلى الحضارة يبدأ حين تتلاقى العقول المؤمنة مع المبادئ الراسخة.
والآن، أيها القارئ الكريم:
1. هل ترى في قصة عبد الرحمن الداخل درسًا يمكن أن نستلهمه في واقعنا اليوم؟
2. لو كنت مكانه، ماذا كنت ستفعل بعد سقوط دولتك وأسرتك؟
3. هل تعتقد أن بناء الحضارات يحتاج إلى القادة وحدهم، أم إلى شعوب تؤمن بالحلم أيضًا؟